أمور دين الحق
الأذكار اللسانية
الأذكار اللسانية
دأب بعض المشايخ وتابعهم المجتهدون الجدد في السخرية من الأذكار اللسانية التي يلتزم بها المسلمون في حياتهم، وقال بعضهم: "إذا كان ذكر الله يعني ترديد أسمائه فإن ذكر نعمته يعني أن يذكر الإنسان أسماءها فيقول مثلا: لحم، خبز، تفاح... الخ" وقالوا: (إذًا فيجب أن تكون الاستجابة للآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران200 القول: "صبرنا وصابرنا وربطنا واتقينا الله، ونكررها مرات كثيرة ونجعلها وردًا يُذكر صباحا ومساء")! وقالوا: إذًا يجب أيضًا أن تكون الاستجابة للآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} الأنفال20 القول: "أطعنا الله ورسوله"، وتكرارها غناء وإنشادا، وجعلها وردا يُذكر في الصباح والمساء!
وكذلك استهجنوا أن تكون الاستجابة للآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما} الأحزاب56 القول لفظا: "اللهم صلِّ على النبي وسلِّم تسليما"، وقالوا إن مثل هذا القول هو تحصيل حاصل.
لذلك يجب العلم بما يلي:
1. أوامر القرءان موجهه إلى قوم يسمعون ويفقهون ويعقلون.
2. لكل أمر مجاله الخاص الذي تبينه آيات القرءان، ولكل مصطلح معناه الذي تبينه أيضًا آيات القرءان، ولا يجوز الخط بين الأمور.
3. لا يجوز لأحد إهمال فحاوى آيات القرءان ولا إشاراتها ولا مقتضياتها.
4. لا يجوز الانحياز إلى معنى ممكن للأمر القرءاني على حساب معنى آخر، فكل المعاني الممكنة للأمر متسقة متماسكة، فالذكر اللساني لأسماء الله لا يتعارض مع ذكر القلب له بل هو من الوسائل إليه، ويجب تذكر دائماً أن الوسيلة لا تغني عن الغاية.
5. ذكر الله هو الإحساس القلبي الصادق بحضوره بذاته وأسمائه، وتسمية ترديد الصيغ اللسانية التي ترد فيها أسماؤه بالذكر هي من باب تسمية الشيء بمآله، فمن يوطن نفسه على الذكر المنتظم لبعض الأسماء مع محاولة التركيز والتفكر فيما يردده بلسانه من وسائل التحقق بهذا الذكر.
6. توجد أوامر قرءانية صريحة بالقول بكل معانيه، كما توجد أوامر ضمنية.
7. الأذكار اللسانية هي من مقتضى الوصول بالإنسان إلى كماله من حيث أنه كائن ناطق، فمن يكرر صيغ حقانية يرقى بذلك لكونها تشير إلى حقائق إلهية وكونية، فالنطق من قوى وإمكانات الإنسان التي هو ملزم بأن يزكيها بذكر الله وذكر نعمه وسننه لا أن يدسيها باللغو أو بالفاحش أو بالباطل من القول.
8. القرءان حافل بالكثير من الأذكار اللسانية، منها ما أمر الله بها، ومنها ما ذكر أن عباده الأخيار قد ذكروه بها، ويجب التأسب بهم.
9. إقامة صلة وثيقة بالله تعالى هي من أركان الدين الجوهرية، وهي تستلزم أقوالا وأعمالا عديدة، ومن هذه الأعمال التوجه إليه بالدعاء في كل حال، ولقد علَّم الله تعالى الناس بما ذكره في القرءان كيف يدعونه بذكره صيغ الدعاء التي توجه بها إليه عباده المصطفون الأخيار.
10. أصل معنى الصلاة واحد وهو عمل اختياري من كائن لإيجاد صلات له بكائن آخر لتحقيق مقاصد معينة، ثم بعد ذلك يعتمد المعنى على حقيقة الطرفين، فصلاة الله على الناس يترتب عليها إخراجهم من الظلمات بكل معانيها الممكنة إلى النور بكل معانيه الممكنة، ومن مظاهر هذه الصلاة إرسال الرسل، فهم رحمة لمن أرسلوا إليهم، أما خاتمهم فهو رحمة للعالمين بما فيهم الناس كافة.
11. أما صلاة الله على النبي فلها بالإضافة إلى معانيها العامة معانٍ خاصة، ومنها مد يد العون إليه والالتزام بنصره وتأييده ومن وسائل ذلك مثلا التأليف بين قلوب المؤمنين رغم ما كانوا عليه من تعصب قبلي مقيت.
12. وصلاة الملائكة على النبي هي إقامتهم لصلات به يترتب عليها أن تعمل القوانين والسنن الكونية لصالحه ولصالح دعوته فيتحتم انتصاره، وهذا ما تحقق رغم أنه بدأ فردًا في مواجهة أشرس مجموعة من البشر، وفي مواجهة قوى عظمى متسلطة لم يكن يوجد من يتصور إمكان الخلاص منها في ذلك العصر!
13. أما الصلاة التي يجب على المؤمنين أن يقيموها فتشمل ما سبق الإشارة إليه من وجوب أن يعملوا على إقامة صلة وثيقة بالله وأن يعملوا على دعمها وترسيخها، والصلاة بصورتها المعلومة هي من الرموز المكثفة لما يلزم لذلك، وكل أوامر القرءان هي من لوازم ذلك، ومنها إقامة صلات مع المؤمنين ومع البشرية جمعاء.
14. وصلاة النبي على المؤمنين هي بالإضافة إلى ما يجب على المؤمن بصفة عامة تجاه المؤمنين الآخرين هي أيضا من لوازم كونه نبيا مرسلا، فهو يقيم صلات بهم من حيث ذلك يمدهم من خلالها بما يطمئن قلوبهم ويهدئ من جيشان نفوسهم.
15. "المصلون" المذكورون في سورة الماعون الذين تتوعدهم السورة بالويل هم المصلون المراؤون، أي المصلون ظاهريا فقط، أما على المستوى الجوهري فهم يكذبون بالدين، بكل ما يعنيه ذلك، ومن المعاني الجزاء الأخروي، فهم لا يؤمنون فعليا باليوم الآخر، ويحيون بمقتضى ذلك، فهم ساهون عن حقيقة الصلاة وعن ضرورة إقامة صلة وثيقة بالله، وتصدر عنهم أفعال مصدقة لذلك، فأعمالهم الخارجية تكشف تكذيبهم بالدين وتعمدهم مخالفة أوامره، فمن يرائي بشكليات الصلاة هو بالفعل يجعل للناس مكانة في قلبه أعلى من مكانة ربه، وربما لم يكن له في قلبه أية مكانة! وكثير من الناس أساؤوا فقه هذه السورة وقدموا مثالا تقليديا لخطورة انتزاع القول من سياقه ونظمه وتفسيره بمعزل عنه وعن القرءان بصفة عامة.
16. الصلاة المعلومة هي حشد مكثف من الأقوال والأفعال التي ترمز إلى حقيقة الصلات بين العبد وربه.
17. وبذلك فإن معنى الصلاة كمصدر أو فعل إنما يتحدد ويتعين بالسياق القرءاني مع الالتزام بالمعنى المشار إليه وهو جماع الصلات الممكنة بين كائنين أو أكثر.
18. الصلاة على النبي هي سعي من المؤمن لإقامة صلات مع النبي من حيث أنه نبي، وهذه الصفة تعني ذاته وكيانه كبشر على صلة بالعالم القدسي الغيبي، فهذه الصلة هي أمر آخر غير طاعة الأوامر الواردة في الرسالة.
19. الصلاة اللفظية أو اللسانية على النبي هي لتوطيد الصلة بالنبي على المستوى الجوهري، فالمؤمن لا ييأس من النبي كما يئس الكفار والمجتهدون الجدد والسلفية من أصحاب القبور.
20. الاستجابة للأمر بالصلاة على النبي بالطلب من الله تعالى أن يصلي على النبي ليست من باب العبث وإنما هي من باب الأدب والإقرار بالعجز عن كيفية القيام والعمل بمقتضى هذا الأمر، والاستجابة من الله لها هي بتحقيق المطلوب بقدر إخلاص المصلي وهمته، ولمن يقولون إن هذا الدعاء هو بمثابة تحصيل الحاصل لأن الله يصلي بالفعل على النبي فجوابنا هو أن كل الأذكار التي يرددها الإنسان هي من باب تحصيل الحاصل، فمن يقول "لا إله إلا الله" فهو إنما يردد حقيقة ثابتة، ولكن هذا الترديد قد جعله الله وفقا لسننه من وسائل نجاة الإنسان وتزكيته والرقي به.
21. ولا شيء في أن يطلب المؤمن من ربه أن يسلم على النبي، فالله تعالى يسلم بالفعل على النبي وعلى عباده الذين اصطفى، فكأن المؤمن يدعو ربه أن يبلغ النبي سلاما منه، فهذا من وسائل التقرب إلى الله تعالى وتوطيد الصلة برسوله، والمنتفع هو المؤمن، ومعنى الفعل بالعربية مرتبط بحرف الجر التالي له، والعربي بالسليقة يعرف الفرق بين "سلَّم على فلان" وبين "سلَّم لفلان" أو "سلَّم إلى فلان".
22. ثبت بالتجارب العملية على مدى التاريخ جدوى الصلاة على النبي بأي صيغة من الصيغ، ولا يماري في ذلك إلا شقي أو محروم
*******
1