نظرات في المذاهب
28
أنواع العام
العام ثلاثة أقسام:
1. عام يراد به قطعا العموم
وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي احتمال تخصيصه، كالعام في قوله تعالى:
{.... وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [آل عمران:62]،
فالآية تشير إلى حقيقة عظمى لا سبيل إلى تخصيص العام فيها، وفي قوله تعالى:
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [هود:6]،
فالآية تتضمن تقرير سنة إلهية عامة لا تتخصص ولا تتبدل، فالعام فيهما قطعي الدلالة على العموم، ولا يحتمل أن يراد به الخصوص.
2. عام يراد به قطعا الخصوص
هو العام الذي صاحبته قرينة دالة على أنه مراد به الخصوص لا العموم، فهو العام الذي صحبته قرينة تنفي بقاءه على عمومه وتبين أن المراد منه بعض أفراد، مثل قوله تعالى:
{... وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين} [آل عمران:97]،
فالناس في هذا النص عام، ومراد به خصوص المكلفين الملزمين بالعمل بالقرءان.
وثمة قيود أخرى مثل القيد العام
{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}،
والقيد الخاص المذكور في نفس الآية:
{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا}.
ومثل قوله تعالى:
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا .....} [الأحقاف:25]،
فالمراد كل شيء مما يقبل التدمير مما أمر به الله في نطاق القوم الذي حكم عليهم بالهلاك، والأسلوب هو أيضًا أسلوب بلاغي لبيان هول العقاب، والقول مخصص بنفس الآية، فقد ورد فيه:
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِين} [الأحقاف:25]
والقول بذلك مفسر أيضًا بقوله تعالى:
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} الذاريات،
ومن كل ذلك يتضح أن المقصود بكل شيء الكائنات الحية في نطاق قوم عاد، و
{أتت عليه}
تعني من أُرسلت عليهم الريح، وهم قوم عاد فقط.
3. عام مخصوص
وهو العام المطلق الذي لم تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه، ولا قرينة تنفي دلالته على العموم، مثل أكثر النصوص التي وردت فيها صيغ العموم، مطلقة عن قرائن لفظية أو عقلية أو عرفية تعين العموم أو الخصوص، وهذا ظاهر في العموم حتى يقوم الدليل على تخصيصه، مثل:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ...} [البقرة:228].
وهذا العام المخصوص هو الاسم الديني الشرعي لطائفة من الناس اقتضى الأمر أن يكون الوصف علمًا عليها إما لإلحاق حكم بهم أو للإشارة إلى أهمية عمل أو صفة أو للتحذير منهما والنهي عنهما.
فالصابرون مثلا هم طائفة من الناس اتصفوا بالصبر وعملوا بمقتضاه، وكان ذلك من القوة بحيث صار الصبر علمًا عليهم، وصار الوصف به لقبًا غلب عليهم أو اسم شهرة لهم.
قال تعالى:
{.... إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}[البقرة:153]، {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين} [آل عمران:146]، {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب} [الزمر:10]
فالآيات توضح صفات وأفعال الصابرين، وكذلك ما هو لهم، وما هم مبشرون به، كما تبين أن الصبر بذلك من أركان منظومة القيم الإسلامية، وأن التحلي بالصبر والعمل بمقتضى الصبر من أمور الدين الكبرى.
هذا ما كان يجب الاهتمام به أكثر من الاهتمام بتصنيف كلمة "الصابرين".
***
المقصود بتخصيص العام هو تبيين أن المقصود منه ابتداءً بعض أفراده، لا جميعهم؛ أي قصر العام على بعض أفراده، أو هو تبيين أن الحكم المتعلق بالعام هو من ابتداء تشريعه حكم لبعض أفراده، والتخصيص في أحيان كثيرة ليس إلا تحديدا للاسم أو المصطلح الشرعي، فثمة فرق كبير بين اتصاف أحد الأشخاص باسم الفاعل من الفعل، وبين أن يكون اسم الفاعل هذا اسمًا شرعيا للشخص.
مثال: أي شخص يسرق شيئًا ما يكون موصوفًا لغويا باسم الفاعل من الفعل "سرق"، فيُقال: "هو سارق"، وصيغة اسم الفاعل تعبر عن عارض، ليس له صفة الثبوت أو الدوام.
فهو لا يوصف بأنه "السارق" من الناحية الشرعية إلا إذا كان ممتهنًا للسرقة، وضبط متلبسًا باقترافها، وانطباق التعريف الشرعي على شخص هو الموجب للعقاب في الدنيا.
أما السارق بصفة عامة فهو يستحق عقابًا على المستوى الجوهري، وهذا العقاب سيظهر ويتحقق في الدار الآخرة، ويجب بالطبع إنزال عقاب به، وهذا داخل في نطاق عمل أولي الأمر.
وما ورد في الآثار دليل على أن تعريف السارق كمصطلح شرعي منوط بأولي الأمر وأن من لوازم وتفاصيل هذا التعريف تحديد حد أدنى إذا تم تجاوزه يعتبر السارق لغويا سارقا من حيث الشرع.
***
قالوا: ((أما إذا شرع الحكم ابتداء متعلقا بكل أفراد العام، ثم قضت المصلحة بقصر الحكم على بعض أفراده، وقام الدليل على هذا القصر فلا يسمى هذا في اصطلاح الأصوليين تخصيصا، وإنما يسمى نسخا جزئيا، لأنه إبطال العمل بحكم العام بالنسبة لبعض أفراده. فقوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾[النور6]،
هو نسخ جزئي للعام في قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]،
لأن هذه الآية الثانية بعمومها تشمل كل قاذف سواء قذف زوجته أو غيرها، وقد شرع الحكم ابتداء عاما، ثم قام الدليل وهو آيات اللعان على قصر الجلد على القاذف الذي يقذف غير زوجته)).
والأولى أن يقال إن هناك حكمين؛ حكم لمن يقذف المحصنات بصفة عامة، وحكم لمن يقذف زوجه بصفة خاصة، ومن المعلوم أن علاقة الزوجية لابد أن تؤخذ في الاعتبار، فلا يمكن أن يستوي من يقذف أية امرأة بمن يقذف زوجته، الأمران مختلفان، فيجب أن يختلفا من حيث الحكم، فلا يوجد نسخ جزئي إلا في اصطلاح الضالين المولعين بالنسخ.
وهم في غنى عن الكثير من مصطلحاتهم لو فقهوا أن نصوص القرءان متسقة متكاملة، وأنه لا يجوز الإصرار على اقتطاع العبارات ومعاملتها على أنها نصوص مطلقة وتحميلها بما يعنّ لهم، وهذا ما يسبب التعارض الذي يقولون به، فهم يفتعلون المشكلة ثم يصرون على حلها بافتعال مشاكل أخرى.
*****
دلالة العام على كل أفراده قطعية ما لم يكن ثمة دليل على خروج بعضها منه، وذلك بمقتضى معناه، فهو يتضمن الشمول والاستغراق.
ولكن بالنظر إلى النصوص الحقيقية يتبين أن تخصيص ما يُسمى بالعام هو الغالب، ولذلك فمن الأفضل النظر إلى الكلمة في سياقها القريب، وفي كافة السياقات الأخرى، وعلى رأسها السياق المعنوي، والنظر فيها على ضوء ما هو ثابت من عناصر دين الحقّ، وروح الدين وأسسه، والسنن الإلهية الكونية.
ودليل تخصيص العام قد يكون متصلا بنص العام كالجزء منه، وقد يكون مستقلا عن نص العام، ومنفصلا عنه.
ومن أظهر الأدلة المتصلة غير المستقلة: الاستثناء، والشرط، والوصف، والغاية.
ومن أظهر أدلة التخصيص المستقلة المنفصلة: ما تقدم العلم به من عناصر دين الحق وعلى رأس ذلك نصوص الكتاب، فقه أساليب اللسان العربي والمنطق.
وما يسمونه بتخصيص عام القرءان بالقرءان هو في الحقيقة من لوازم إعمال المنهج القرءاني.
ولا يجوز تخصيص عام القرءان بالمرويات الظنية، وكل مزاعمهم في هذا الشأن مردود عليها، وهي مبنية على مغالطة معلومة جيدا A well-known fallacy، فهم يقتطعون عبارة من آية ومن السياق، ويتجاهلون ما ورد في القرءان في نفس المسألة، ثم يستخلصون النتيجة التي أرادوا فرضها مسبقا، مثال:
زعموا أن مروية "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" خصصت عموم قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...}[المائدة3]،
وهم يتجاهلون تماما الآيات الاتية:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُون}[المائدة:96]، {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [النحل:14]، {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [فاطر:12]
فمن الواضح أن آية تحريم الميتة إنما تتعلق بما يعيش على البر.
وقد يقولون ما هو حكم اللبونات البحرية؟
اللبونات البحرية هي حلال بمقتضى النص على أن صيد البحر حلال، ولكن الدم المسفوح حرام، لذلك لابد من ذبحها للتخلص من الدم المسفوح.
أما بعض الآثار التي يزعمون أنها خصصت أو نسخت بعض آيات الكتاب فقد تعجلوا وأخطئوا فيها.
أما الأمور الخاصة بكيفيات أداء الصلاة فأكثر بيانها من ملة إبراهيم، والرسول في القرءان كان مأمورًا باتباعها، وكذلك بيانها مما سنه الرسول أو اختاره لأمته من الصيغ والأذكار، ولم يرد في القرءان بالفعل الوصف التفصيلي لها كما تؤدَّى لأسباب عديدة، فيمكن الأخذ بلا حرج بأي أخبار منسوبة إلى الرسول متعلقة ببيان الصلاة وما يلزمها من وضوء وغسل، وذلك بالنظر إلى مقاصد التشريع الكلية والجزئية وسمات الدين، فالمراد بالأمر بتفاصيل الوضوء في القرءان هو ما يراد من أي غسل؛ أي تحقق نظافة الأعضاء المذكورة، والتي هي مكشوفة عادة ومعرضة للغبار والأتربة، لذلك لا مشكلة في أداء أكثر من صلاة بوضوء واحد أو المسح على الخفين بدلا من غسل الرجلين، والطاعة في أمور كهذه أهون من الطاعة في أمور كأداء صلاة الظهر أربع ركعات مثلا.
فيجب على كل مسلم الأخذ بشكليات الصلاة التي تعلمها من والديه مع التركيز الشديد على مقاصد الصلاة وأركانها الجوهرية، أي المذكورة صراحة في القرءان.
والآية تقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}،
ولم تقل "كلما قمتم".
أما الاختلافات بين المذاهب في مثل هذه الأمور فهي طبيعية وبديهية، ولا يجوز أن تكون سبب فرقة وتنابذ بالألقاب.
1