نظرات في المذاهب
موجز تاريخ الدين الأعرابي الأموي
سبب تسمية الدين السائد الذي حلَّ محلَّ الإسلام بالدين الأعرابي الأموي:
تم اختلاق واحداث كل ما يلزم لذلك الدين في العصر الأموي، فتم إقحام كل العناصر السيئة من المنظومة الجاهلية الأعرابية، وتم اعتبار تقاليد الأعراب جزءا من الدين، وتمت كتابة السيرة كما توافق أهواء الأعراب وتجسد صورة البطل المثالي عندهم، وبذلك تمَّ استبعاد الأمور الوجدانية وأكثر مكارم الأخلاق والأمور الجوهرية والكبرى من الدين.
وتولى المنافقون والموتورون من أهل الكتاب اختلاق كل ما يلزم لشرعنة كل أهواء المتسلطين الأمويين وضمان بقاء تسلطهم وعدوانهم المستمر على الأمة وعلى من جاورهم، كما تم نقل الكثير من التراث التلمودي إلى التراث الديني، تمَّ وضع أكثر المرويات في هذا العصر حتى أصبحت نسبة الموضوع إلى الصحيح أكثر من 100 إلى 1، كان البيروقراطيون النصارى -الذين كانوا في خدمة البيزنطيين في الشام- قد دخلوا في خدمة معاوية وتولوا أمر تحريف الدين وإرشاد الأمويين إلى سبل القضاء على رموزه وحملته.
فلما جاء العباسيون وأبادوا الأمويين وجدوا في هذا الدين الأعرابي الأموي كل ما يحتاجونه لضمان وحماية تسلطهم وللتصدي لأعدائهم فتبنوه، وفي عهدهم دسَّ المجوس فيه ما هو عزيز عليهم من تراثهم، ثم بدأ بعد ذلك التنظير والتدوين، ولعب فيه اليهود وتلاميذهم دورا كبيرا.
أما العصر العثماني فهو عصر الجهل والتخلف والخزعبلات والتوثين، وفيه أصبحت أسماء الخلفاء الراشدين تُكتب في القبلة بجوار لفظ الجلالة أو محيطة به، وتم توثين كل رموز الدين الأعرابي الأموي وأصبح البخاري يُتلى ويُرتل لطلب النصر.
*******
قاد (الصحابي الجليل) أبو سفيان بن حرب معركة الكفر والشرك ضد الإيمان، فلما هُزم هزيمة نهائية تامة وأسلم (أذعن) انتقل إلى قيادة معركة النفاق ضد الإيمان، وفي معركة حنين وقف أبو سفيان يتمنى الهزيمة للمؤمنين، وكان قد فقد كل موارده المادية حتى قيل إنه بدأ يسرق!
أكرمه الرسول وأعطاه جزءا كبيرا من الغنائم حتى اغتنى، فلم يخفف ذلك من وطأة نفاقه وعزمه على الكيد للرسول ورسالته، وفي عقبة تبوك اشترك (الصحابيان الجليلان) أبو سفيان وابنه معاوية مع بعض (الصحابة الأجلاء) الآخرين في مؤامرة لاغتيال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، ولكن مؤامرتهم فشلت، وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.
واتقاءً لشره، أو بالأحرى لضمان ولائه هو وقبيلته القوية الدنيوية الشرسة، عيَّن مؤسسا الدولة القرشية أبو بكر وعمر ابنه يزيد قائدا لأحد الجيوش التي خرجت لحرب الروم مخالفين بذلك أسس الإسلام، فلما هلك يزيد عين عمر بن الخطاب مكانه أخاه (الصحابي الجليل) معاوية!!
وهكذا وجد معسكر النفاق والتآمر رجله الكفء المنتظر، فلما تولى الخليفة الأموي عثمان الأمر وجد معاوية نفسه ملكًا حقيقيا بلا رقيب، وجد المجال فسيحا لإحكام تدبيره والشروع في تنفيذ خطته، كان يعلم أن طريقة الخلفاء البدائية في الحكم لابد أن تنقضي، وأن بقاءهم في الحجاز خطر داهم عليهم، فهو بلا موارد ويمكن الاستيلاء عليه وإسقاط الحاكم فيه بمجرد حصاره، وقد تتطوع لخدمته أو بالأحرى إدارته لصالحهم موظفو الدولة البيزنطية العميقة في الشام، وتطوع لذلك أيضًا أحبار اليهود، أما قوته الضاربة فكانت قبيلة بني كلب الذين كانوا له أوفى من الكلب لصاحبه، والحقّ أنهم كلهم لم يكونوا إلا آلات رخيصة في أيدي الشيطان الأكبر الذي كان يسعى لإطفاء نور الرسالة الخاتمة.
وكان أكثر ما يؤجج نيران الحقد والغضب في نفس (الصحابي الجليل المقدس) والربّ الحقيقي للدين العرابي الأموي معاوية هو أنه كان يُنادَى باسم النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، خمس مرات في اليوم، وهو كان يعتبر أن هاشم دبرت حيلة لانتزاع المجد والشرف من قبائل قريش والاستثار به، قال المطرف بن المغيرة بن شعبة دخلت مع أبي على معاوية و كان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إليَّ فيذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتما فانتظرته ساعة وظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت: ما لي أراك مغتما منذ الليلة فقال: يا بني جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم قلت وما ذاك قال: قلت له وقد خلوت به إنك قد بلغت سنا يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلا و بسطت خيرا فإنك قد كبرت ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه وإن ذلك مما يبقى لك ذكره و ثوابه فقال هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاءه؟ ملَكَ أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل أبو بكر، ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل عمر، وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله فأي عملي يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك لا والله إلا دفنا دفنا.
وأوضح ما يعبر عن الاتجاه الأموي هو هذه الأبيات التي تمثل بها اللعين يزيد بن معاوية:
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
لست من خندف ان لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل
ولم يكن الداهية معاوية ليخفى عليه أنه لم يعد ثمة مجال للقضاء التام على الإسلام والعودة إلى عبادة الأصنام، أو بالأحرى إلى الجاهلية، خاصة وأن قبيلته كانت تعلم جيدا بطلان قضية الأصنام وأن أصنام الكعبة لم تكن إلا وسيلة للحصول على الشرف والمال، وكان يعلم أن أي مجاهرة بكفر تعني انهيار كل ما بناه، وكان الأحبار وموظفو الرومان يعلمون جيدًا قصة الإمبراطور الروماني جوليان المرتد Julian the Apostate، وكيف فشلت محاولته للتصدي للمسيحية بعد أن أقرها الأباطرة من قبله وتمكنت من الناس، وقد لقي مصرعه غدرًا على يد أحد المسيحيين من جيشه عندما كان يحارب الپارثيين! وكان هو بدهائه لا يريد الخوض في مغامرة تودي به بعد أن حقق أهدافه، وقد رفض أن يأخذ بثأر عثمان وقال لابنته التي ناحت في وجهه مطالبة بثأره: " يَا بِنْتَ أَخِي، إِنَّ النَّاسَ أَعْطَوْنَا سُلْطَانًا فَأَظْهَرْنَا لَهُمْ حِلْمًا تَحْتَهُ غَضَبٌ، وَأَظْهَرُوا لَنَا طَاعَةً تَحْتَهَا حِقْدٌ، فَبِعْنَاهُمْ هَذَا وَبَاعُونَا هَذَا، فَإِنْ أَعْطَيْنَاهُمْ غَيْرَ مَا اشْتَرُوا شَحُّوا عَلَى حَقِّهِمْ، وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ شِيعَتُهُ فَإِنْ نَكَثْنَاهُمْ نَكَثُوا فِينَا، ثُمَّ لا يُدْرَى أَلَنَا الدَّائِرَةُ أَمْ عَلَيْنَا، وَأَنْ تَكُونِي بِنْتَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونِي أَمَةً مِنْ إِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَنِعْمَ الْخَلَفُ أَنَا لَكِ بَعْدَ أَبِيكِ"، هكذا رفض معاوية أن يأخذ بثأر عثمان الذي أشعل الفتنة ومزَّق الأمة وبدّل الدين مطالبة بثأره.
وقد أرشده الأحبار وموظفو الرومان إلى الحل المعلوم والمجرَّب؛ تحريف الدين ليكون وسيلة لتوطيد سلطانه وبقاء الملك في ذريته من بعده، وهكذا بدأت أكبر عملية تحريف لدينٍ على مدى التاريخ، وتمَّ وضع أسس المذهب الأموي وآليات بقائه أيضا، وكان من ذلك:
محاصرة القرءان وصد الناس عنه مع تقديم أسمى آيات التبجيل الشكلي له، ومن ذلك إحداث إفك القول بوجود آيات منسوخة ووضع المرويات التي تشكك في التعهد الإلهي بحفظه، فلم يكن من الممكن لهم إلغاء القرءان أو تحريفه بعد انتشار حفظته في الأمصار، ولخطورة استفزاز مشاعر المؤمنين الدينية.
إبادة كل آثار وأخبار العصر النبوي بإبادة العالمين بها وصرف الناس عنها وشغل الناس بلهو الحديث وتعيين قُصَّاص في المساجد هم بحاجة دائمة إلى الاختلاق والاغتراف من أساطير وخزعبلات أهل الكتاب.
إحياء كل آثار العصر الجاهلي ومنظومته المعنوية، وقام الشعراء بوضع أبيات من الشعر ونسبتها إلى المشهورين منهم بحيث تلقي بظلال من الشك على القرءان..
إعادة الاعتبار لأبطال العصر الجاهلي والمبالغة في مآثرهم، بحيث أصبحوا هم مضرب الأمثال في مكارم الأخلاق.
صدّ الناس عن السابقين الأولين وعترة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بلعنهم على المنابر واعتبارهم بمثابة أعداء رسميين للدولة، والتنكيل بشدة ممن يعترض على ذلك.
وضع المرويات ونسبتها إلى الرسول أو تحريف ما هو موجود منها، ثم اعتبارها هي السنة.
تحويل مصطلح صحابي وهو مصطلح لغوي محض إلى مصطلح ديني، واستعماله لتحويل أهل النفاق والمرتدين إلى أرباب مقدسين ومشرعين، وهؤلاء هم أكبر منتفعين إلى الآن بهذا اللقب.
جعل المرويات هي المصدر الأعلى الحقيقي للدين بإحداث أقوال مثل: السنة قاضية وحاكمة على الكتاب، السنة تنسخ آيات القرءان عند الاختلاف والتعارض، السنة توضح مشكل القرءان وتبين مبهمه وتقيد مطلقه وتفصل مجمله، حاجة القرءان للسنة أشد من حاجة السنة للقرءان!!!
وضعوا القواعد اللازمة لإلزام الناس بالخضوع المطلق للمتسلطين الطغاة الفجرة، وتفننوا في صياغتها.
وضعوا القواعد اللازمة لإقناع الناس بالرضا التام عن حالتهم السيئة المتردية، بل وفرضوا التفسير الجبري للدين كركنٍ من أركان الإيمان.
وضع مروية مثل: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" لشرعنة الاغتراف من أساطير أهل الكتاب ودسها في التراث الإسلامي.
وهكذا تم عمل دين بديل، كان أبطاله اليهود بأسماء مستعارة.
في العصر العباسي لم يتورع هؤلاء عن الظهور بأسمائهم الإسرائيلية، وقد تم على أيديهم تنظير المذهب الأموي، ومن هنا كانت تسميته بالمذهب الأموي العباسي.
كان من المفترض أن تقوض الثورة ضد الأمويين الدين الأموي الذي أحدثوه، ولكن العباسيين العريقين في الخيانة وجدوا أن من الأفضل لبقاء سلطانهم اعتناق الدين الأموي ومناصرته بعد أن قضوا تماما على خطرهم، وكان ذلك لأنهم اكتشفوا أن أعداءهم هم نفس أعداء الأمويين.
تم وضع ما يلزم من قواعد تكفيرية إقصائية ضد من يرفضون الدين الأموي العباسي.
ولكن الناس صدموا عندما عاشوا بين شعوب الشرق الأوسط العريقة ومهد الحضارة، وقد أدركوا مدى بشاعة وتخلف وعدوانية وإجرام الدين الذي يروج له سفلة الأمويين وأنصارهم، كما أدركوا مدى قصور وفشل دعاة هذا الدين عند المجادلة مع أتباع الأديان الأخرى، ومن هنا بدأت تظهر اتجاهات عقلانية جديدة، كان على رأسها المعتزلة، وبدأوا يكتسبون الأنصار خاصة بعد نجاحهم في المناظرات مع أهل الكتاب وغيرهم، وكان أكبر نجاح لهم أن استمالوا المأمون العباسي الذي نشأ في أحضان الفرس، ولم يقصِّروا في انتهاز الفرصة، ولكنهم بالطبع فوجئوا بمدى شراسة مقاومة العامة والدهماء لهم، كان الوقت متأخرا بعد أن تمكن الدين الأعرابي الأموي العباسي من الناس، لم يغن عنهم تحريض المأمون على استعمال العنف، وبعد هلاك المأمون سار خلفاؤه على نهجه قليلا احتراما لذكراه، إلى أن تولى السلطة المتوكل بن "شجاع" التركية.
سرعان ما أدرك المتوكل، أسد (السنة) وقاهر (البدعة) السكير الأكبر والذي جمع بين الخلافتين الظاهرة والباطنة عند المتصوفة، مدى خطأ عمه المأمون ووالده المعتصم، فأما عمه فقد انحاز لبعض الخاصة من المتفكرين غير ذوي الشوكة والذين سيشكلون خطرا على سلطان العباسيين على المدى الطويل ضد الأثرية من أتباع المذهب الأموي الذي يؤله المتسلطين مهما طغوا وبغوا وفجروا ويلزم الناس بالعقيدة الجبرية، أما المعتصم فقد سار على نهجه رغم أنه كان مجرد جلف، وهو الذي طرد الفرس والعرب من الجيش وأحلّ محلهم الترك، وذهب ليعيش معهم في سامراء فأصبح في الحقيقة أسيرًا عندهم، وسيذهب أكثر الخلفاء من بعده ضحايا لهم.
وكان الترك بدوا مثلهم مثل الأعراب، لا علاقة لهم بفكر أو عقائد، ولا تصلح لهم إلا ديانة كالديانة الأعرابية الأموية، وهكذا انحاز المتوكل إلى أرباب الديانة الأعرابية الأموية وأحيا (السنة) وقهر (البدعة)، وهاتان الجملتان البسيطتان تعنيان هلاك ما لا حصر له من البشر وحملة اضطهاد بشعة ضد من ينحرف قيد أنملة عن الديانة الأعرابية الأموية العباسية، وقد تم تأليه المتوكل من بعد، وعندما سيظهر المتصوفة على الساحة سيجعلونه من القلائل الذين جمعوا (عندهم) بين ألوهية الظاهر وبين ألوهية الباطن مثل (الخلفاء الراشدين) ومعاوية بالطبع.
وكان المنتصر الأكبر هو ابن حنبل زعيم الأثرية الحشوية، ورغم أن أتباع المذاهب الأخرى تعرضوا لتعذيب أكثر منه، بل استشهد بعضهم في قيوده مثل البويطي الشافعي المصري فإن الحنابلة قاموا بالدعاية المكثفة لزعيمهم الذي أصبح إلها من آلهة الديانة الأعرابية الأموية، وانطلق حنابلته يبطشون بغيرهم ويفسدون في الأرض، بل بطشوا بأتباع معلمي إلههم مثل الشافعية، وأصبحوا هم المسيطرين على مركز الإمبراطورية العباسية.
ولكن بدأت قبضة هذه الإمبراطورية تخف عن الأقاليم، ونشأت بعيدا عن العراق مراكز إسلامية حضارية أخرى فرّ إليها كل من لديه ذرة من فكر حر.
وسرعان ما ظهرت واستفحلت المشاكل القديمة، وتبين للناس من جديد بشاعة وفقر ودموية الديانة الأعرابية الأموية العباسية، فظهر الأشعري، وقام بتلفيق مذهبه كوسط بين المذهب الأثري وبين مذهب المعتزلة، فلم تنطل حيلته على الحنابلة، فرفضوا كلامه وزعموا أنه ارتد عن مذهبه، أما خلفاؤه فأخذوا يطورون في مذهبه، وكان التطوير في اتجاه الاقتراب من مذهب المعتزلة.
ولكن كان الفاطميون قد علا نجمهم واستفحل أمرهم، ومن مصر بثوا الدعاة إلى المشرق، وقدموا للناس دينا ممزوجا بالفلسفة اجتذب الصفوة، وكان منهم والد ابن سينا مثلا الذي ربى ابنه على مذهبهم، كما أصبحوا يهددون الخلافة العباسية في عقر دارها، وكان الرقي الحضاري الذي تحقق في عهدهم أثره في اجتذاب الناس من الأقاليم البعيدة إلى مذهبهم حتى أوشكت الخلافة العباسية على الانهيار التام.
وأنقذ العباسيين ظهور قبيلة السلاجقة واعتناقهم المذهب الأموي العباسي، وظهر أحد الوزراء المستنيرين وهو نظام الملك الذي أسس المدارس النظامية لتدريس المذهب الأموي العباسي المعدل؛ أي الذي يأخذ بالصيغة الأشعرية في العقيدة والشافعية في الفروع، وعيَّن فيها المعلمين النابهين ليستطيعوا التصدي لدعاة المذهب الفاطمي الإسماعيلي، وفي هذه المدارس كان يعمل الغزالي وغيره من أئمة الأشعرية، وقد ذهب هذا الوزير ضحية هؤلاء الإسماعيلية من أتباع حسن الصباح صديقه في الأيام الخالية.
وكان الناس قد بدأوا يدركون مدى تدهور الدين الأموي العباسي في النواحي الوجدانية والأخلاقية، وكانوا يطالعون مدى بشاعة الشخصيات الناتجة عن هذه المذهب وكيف أنهم في الحقيقة عبيد سلطة وشهوة ومال وجاه، وكيف أن رجال الدين ليسوا إلا نعالا في أقدام المتسلطين وأنهم أسرى الطقوس والحرفيات والرسوم، وأصبح ذوو النفوس الراقية والحساسة يتطلعون إلى ما يشبع تطلعاتهم الروحانية ورغبتهم في الكمال الأخلاقي، ولذلك أخذوا ينهلون من التجارب الروحانية للأمم العريقة التي يعيشون بينهم، وهكذا نشأ التصوف مثقلا بعقائد وتراث وممارسات الأمم السابقة، ولكن لم يكن رجال الدين الأموي العباسي لم يكونوا ليسمحوا لغيرهم أن يتحدث في الدين فتعرض المتصوفة للمطاردة والاضطهاد والملاحقة، ولذلك نقلوا الكثير من ممارسات المذهب الشيعي صاحب التاريخ العريق في تحمل الاضطهاد والتنكيل.
وكانت تجربة الغزالي تلخص أحوال الأمة في هذه الفترة، وهي تبين ضرورة الاعتراف بشرعية التصوف وإلحاقه بالدين، وذلك يعطيه شيئا من الروحانية مثلما أعطاه المعتزلة شيئا من العقلانية.
ولقد حسم الغزو الصليبي الأمر، واستطاع هؤلاء الهمج الجياع اجتياح الشام بسهولة متناهية، ولقد صُدِم قادة المحسوبين على الإسلام المهزومين من زهد وتواضع وإيمان السفاح البارع الذي انتصر عليهم، وهو أمير اللورين جودفري دى بوايون Godefroy de Boillon قائد الحملة، وأدركوا مدى بعدهم عن المثاليات الدينية، وأدرك الناس المهددون بالفناء ذلك أيضا، فانتشر التصوف بين العامة، ولم يعد حكرا على بعض الخاصة، واستفحل أمره وانتشرت الطرق التي كانت على غرار الجيوش، وأصبح لها ألوية.
وسرعان ما اشتد ساعد المتصوفة وسيطرتهم على الناس بما فيهم الملوك والسلاطين، ونأوا هم بأنفسهم عن فلاسفة التصوف وعن كل ما ينفر الناس منهم، وتبنوا أئمة ومقولات المذهب السني الذي تكون من المذهب الأموي الأصلي والتحسينات الفقهية والعقائدية الأشعرية، وقد انتقلت العنجهية الأعرابية والنزعة القبلية والدعاوى إلى تصرفاتهم، ولما بدأ الناس يتساءلون عن سبب عدم ظهور مثل هذه الدعاوى العريضة بين الخلفاء الراشدين وأئمة (الفقه) الأقدمين ضمهم المتصوفة إلى صفوفهم وزعموا لهم ما زعموه لأنفسهم، وهكذا أصبح ابن حنبل مثلا وتدا صوفيا!!!!!
وتأكد كل ذلك في العصر المملوكي 1250 م-1517 م، ولكن خفف من غلواء ذلك اشتداد الحاجة إلى التأليف الموسوعي واستمرار استعمال اللسان العربي كلسان رسمي، وكانت مقولات فلاسفة التصوف مثل القول بوحدة الوجود والقول بوحدة الأديان قد ذاعت وانتشرت بين العامة وأساءوا استعمالها، فظهر ابن تيمية وتصدى لهم بشراسة وأعاد إحياء المذهب الأعرابي الأموي العباسي في صورته النقية الخالية من إضافات الأشعرية والمتصوفة، ووضع بذلك ألغاما شديدة الخطورة في التراث المحسوب على الإسلام.
أما في العصر العثماني الذي بدأ في 1517 م واستمر إلى 1798 م في مصر، واستمر إلى سنة 1918 في المشرق العربي فقد كان الانهيار مريعا وتراكميا، وكاد ينقرض سكان الشرق الأوسط تحت الحكم العثماني الهمجي الذي لم تشهد البشرية له مثيلا في الجهل والوحشية والتخلف، وفي هذا العصر العثماني أُسدل ستار كثيف من الظلمات والعزلة على هذه المنطقة التي كانت مهد الحضارة وشريكا أساسيا فيها بينما كان الغرب يحقق نهضته الكبرى، وكان الناس قد انتشر بينهم التصوف حتى أصبح كل شخص لابد أن يكون منتميا إلى طريقة صوفية بالإضافة إلى مذهبه الفقهي ومذهبه الأصولي والذي كان المذهب الأشعري.
وعندما فوجئ أهل المنطقة بالغزو الغربي وأدركوا مدى ما هم فيه من جهل وتخلف وانحطاط كانت الصدمة هائلة، ولكن كل ذلك لم يزحزح سدنة المذهب الأموي العباسي عن مواقفهم، فكان لابد أن يتجاوزهم العصر، أنشأ محمد علي في مصر تعليما موازيا بعيدا عن الأزهر وجموده وتخلفه، واستمر هذا الاتجاه ونما وترعرع فيما بعده رغم بعض النكسات.
حاول جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده المصري تحرير الدين مما أثقل كاهله من الإصر والأغلال والحشو وتحريره من الشكليات وإبراز جوانبه الكبيرة، ولكن كان لهم مشايخ الأزهر بالمرصاد، ولكن أخذت الهزائم تنهال على عبيد الجهل والتخلف في كل معركة من معارك التقدم.
كانت الوهابية قد ظهرت في نجد، ونمت واستفحل خطرها على المسلمين، والوهابية هي صورة نقية من صور المذهب الأموي العباسي، وهي تسعى لفرض هيمنتها على المسلمين أينما كانوا مسلحين في ذلك بإمكانات مادية هائلة، أخذوا اسم "السلفية" من مصطلحات مدرسة محمد عبده وأطلقوه على مذهبهم، وكانت حيلة ناجعة، ولما كان المذهب الأشعري لم يعد يملك ما يقدمه للناس فقد هرع المشايخ على الوهابية وولوا وجوههم شطر قرن الشيطان، وبذلك انتهى عمليا المذهب الأشعري، وأصبح اسم أهل السنة يُطلق أساسا على السلفية والوهابية.
*******
لم يستطع الأعراب والطلقاء أن يؤمنوا بالدين ولا أن يعلموه ولا أن يفقهوه، وهؤلاء كانوا مادة الغزوات والتوسع الإمبريالي الاستيطاني، وكان القرشيون قادته، وهؤلاء فرضوا قصورهم وعجزهم هذا على الدين فظهر شيئا فشيئا المذهب القرشي الأموي الأعرابي والذي كان معبرا أيضا عن طبيعة السلطة الأموية الغاشمة ووحشيتها ونفاقها، فلما استقر لهم الأمر بدأ عصر الجدال مع أهل الكتاب والفلاسفة، فتلقى المحسوبون على الإسلام من المعتنقين لهذا المذهب هزائم مريرة وظهر عجزهم أمام هؤلاء المتمرسين باستعمال المنطق، فظهر المعتزلة لمحاولة التصدي لهؤلاء وإدخال قدر من العقلانية والمنطق على الصياغة المذهبية التي كانت هي الإسلام في نظر الناس وحققوا نجاحات ملحوظة لحساب الدين.
ولكن المذهب الاعتزالي بحكم طبيعته لا يمكن أن يمثِّل دين الحق تمثيلا صادقا، ولم يثبت دعاته أنهم يمكن أن يكونوا للناس أئمة دينيين حقيقيين، فكان لابد من رد فعل عنيف من المذهب الأثري السلفي الأصلي الذي أثبت لأجهزة التسلط أنه الأصلح لها، فهو المذهب الذي يجعل للمتسلط المتغلب كل الحقوق ولا يجعله مسؤولا أما أحد، وهو المذهب الذي تبارى سدنته في سنّ القواعد التي ترسخ ذلك مثل: "من قهرك بسيفه وجبت عليك طاعته"، "من غلب بالسيف حتى صار خليفة وسُمِّي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما براً كان أو فاجرا"، "حاكم غشوم خير من فتنة تدوم".
ورغم انحياز المتسلطين النهائي إلى المذهب الأثري لكونه المذهب المثالي بالنسبة لهم فإن مذهب المعتزلة بقي قويا بمنطقه وقدرته على جذب الخاصة، وفي خضم الصراع المستمر ظهر الأشعري محاولا التوفيق بين هاذين الاتجاهين المتنافرين، محاولا استرضاء كافة الاتجاهات.
وجاء من بعده رجال أفذاذ تجاوزوه ووضعوا أسس العقيدة الأشعرية والتي حظيت بقبول الصفوة والمثقفين والقادة، وأصبحت هي مذهب جمهور العلماء بموقفه المتحفظ من الآثار والمرويات، وانزوى المذهب السلفي الأثري في جيوب متخلفة تحظى بكل احتقار وازدراء فغلوا في التشبيه والتجسيم وفي العدوانية والتطاول على الاتجاهات الأخرى.
وكان المذهب الأموي الأثري قد أثبت فشله في أخطر مجال من صميم الدين، وهو الجانب الوجداني الذي حظي باحتقار الأعراب الجفاة غلاظ الأكباد وازدراء المتسلطين الأمويين السفلة المجرمين والذين نشئوا أصلا في أحضان العهر والرذيلة، ولكن إشباع هذا الجانب هو حاجة إنسانية ملحة، وقد جاء المسلمون من أهل الأمصار إلى الإسلام محملين بالممارسات الوجدانية القديمة وتأثيراتها فظهر الزهد ثم التصوف ثم بدأ الناس يتكلمون علنا عن الحب الإلهي، لأول مرة في تاريخ المسلمين!!!!!!!!!!!!!!!! ولم يجد ذوو النفوس الراقية الحساسة حرجا في أن يتعلموا التريض الروحاني الوجداني من رهبان النصارى ومن الهنود والمجوس.
وبذلك نشأ التصوف متأثرا بممارسات الشعوب القديمة العريقة في المنطقة، ونشأ في مقابل ذلك تيار يحاول عبثا أن يطهره من آثار هذه الممارسات، وتحمل المتصوفة بالطبع الاضطهاد البشع الذي أوقعه بهم أرباب المذاهب الأخرى وخاصة المذهب الأثري الذي كان قد أسس لنفسه قاعدة قوية في بغداد وأصبح الخليفة دمية في أيديهم، وقد كانت المذاهب المحسوبة على الإسلام منذ نشأتها متناحرة متعادية متأثرة بطبيعة الأعراب القبلية العدوانية.
وعندما دخل الفاطميون مصر دخولا سلميا أحيوا سنة الدعوة السلمية إلى الدين (والذي كانوا يؤمنون بالطبع أنه هو مذهبهم) فأرسلوا الدعاة المحتسبين يدعون إلى مذهبهم ويعلمون الناس الفلسفة والمنطق، وعرفوا بالتعليميين أو الباطنة، وكان السلاجقة الأتراك قد احتلوا بغداد وأصبحوا السادة الجدد للخليفة العباسي الطرطور، وأخذوا على عاتقهم التصدي للفاطميين على كافة المستويات العسكرية والدينية، أما على المستوى الديني فقد توسعوا في إنشاء المدارس الدينية الحقيقية (لأول مرة في تاريخ المذهب الأعرابي الأموي السلطوي)!!! واشتد الطلب على مدرسي المذهب الأشعري بحكم أنهم بالطبع الأقدر على التصدي للفاطميين المولعين بالفلسفة والمنطق.
أما على المستوى العسكري فقد هزم السلاجقة الفاطميين في الشام وطردوهم من القدس، واصطدموا أثناء توسعهم بالروم البيزنطيين وأوقعوا بهم هزائم ساحقة، كان الفاطميون متسامحين مع الحجاج المسيحيين الغربيين أما الأتراك السلاجقة فأمعنوا في اضطهادهم وجلبوا بذلك على قلب العالم الإسلامي نقمة المسيحيين الغربيين، وبذلك بدأوا الإعداد للحروب الصليبية.
قبل قدوم الصليبيين كان السبب في قدومهم قد زال!!! فقد تفككت الإمبراطورية السلجوقية!!!! واستعاد الفاطميون القدس!!! وكان على هؤلاء أن يدفعوا ثمن أخطاء الترك السلاجقة دون أن يذنبوا في حق المسيحيين الغربيين، وقد كانوا هم أيضا قد ضربهم الضعف والتفكك!!!
استولى الصليبيون على القدس بعد حصار شديد ودفاع بطولي من الحامية الفاطمية الصغيرة.
فوجئ المسلمون بقوة واستبسال الصليبيين وخاصة فرسانهم، كانت فئة قليلة من الصليبيين قادرة دائما على سحق فئة كبيرة من المحسوبين على الإسلام، شاع بين الناس أن الصليبيين لا يُقهرون!! تبين لصفوة المسلمين أن السبب يعود إلى هشاشة إعداد الجنود المحسوبين على الإسلام، فقد كانوا أقرب إلى الهمج وكانوا على المستوى الديني فاسقين في جملتهم، هذا في مقابل صلابة الفارس الصليبي على كافة المستويات، علموا أن ذلك يرجع إلى الإعداد الديني العسكري الطويل للفارس الصليبي، وهكذا بدأ العمل على إنشاء نظام مشابه.
نشأت مراكز إعداد الفرسان الدينيين في شظايا الإمارات التي نتجت عن انفجار الإمبراطورية السلجوقية، استعانوا في ذلك الإعداد بمشايخ التصوف الذي فتح له رجال مثل الغزالي الباب ليصبح اتجاها معترفا به ومقبولا عند الجمهور بعد أن خفف من غلواء الاتجاهات الفلسفية فيه أو بالأحرى ألغاها، واعتمادا على هؤلاء الفرسان الجدد بدأت أسرة عماد الدين زنكي المتمركزة في الموصل مشروعها لطرد الصليبيين من الشرق.
نشأ نظام المماليك في مصر كمحاكاة لنظام الفرسان الصليبيين، اقتضى نظام الحروب في القرون الوسطى أن يُربَّى الفارس على أعمال القتال منذ صغره وأن ينشأ نشأة عسكرية دينية صارمة وأن يُربى على الولاء المطلق للإسلام، أنشأ هذا النظام في مصر ووضع له قواعده آخر وأعظم سلاطين الأيوبيين وهو الملك الصالح نجم الدين أيوب، فهو بلا جدال أعظمهم في النواحي العسكرية وأشدهم تعصبا للإسلام وحزما مع الصليبيين، وهو الذي استرد القدس وبقيت في حوزة المسلمين إلى أن استولى عليها الإنجليز بمساعدة الأعراب أثناء الحرب العالمية الأولى.
وهكذا نشأ مماليكه المعروفون باسم المماليك البحرية؛ نسبة إلى بحر النيل، ولقد وضع مؤسس دولتهم الحقيقي الظاهر بيبرس مشروعه للقضاء التام على الصليبيين دون شفقة أو رحمة بعد أن طال عبثهم وغدرهم ونقضهم للعهود والمواثيق، وتولى هو ومن بعده قلاوون الألفي وابنه الأشرف خليل تحقيق هذا المشروع الذي انتهى بإلقاء الصليبيين في البحر وبيع من تبقى منهم في أسواق الرقيق، وهذا ما لم ينسه شياطين الغرب لبيبرس والمماليك ومصر.
*******
1