الإسلام والأمة والدولة والمذاهب المعاصرة
المواطنة
مفهوم "الوطن" هو مفهوم أو مصطلح حديث، وهو معبر عنه بمقتضياته ولوازمه في القرءان، فهو المفهوم الجامع لما يلي: الـديار، المال والممتلكات، الأهل، ذوو القربى الجار الجُنب، الصاحب بالجَنب.
لذلك فالوطن في القرءان ليس حفنة من تراب، بل هو ما يوفر للإنسان كل ما توفره الديار له، وكل يوفره له الأهل وذوو القربى والجيران الجنب والأصحاب بالجنب والمال والممتلكات، فهو ما يوفر للإنسان الأمن والسكن وإشباع الحاجات المادية والمعنوية.
وإقرار مبدأ المواطنة هو بمثابة عهد وميثاق بين من يتعايشون في كيان جغرافي واحد، فهو يقرر لكل فرد (مواطن) الحقوق والواجبات، وكل هذا ينبغي أن يُترجم إلى قوانين تفصيلية.
ولكل مواطن في وطنه حقوق، هي حقوق طبيعية بمقتضى أن البشرية قد ارتضت كوسيلة للتعايش مفهوم الوطن وما يرتبط به من مفاهيم كمفاهيم الشعب والدولة مثلا، هذه الحقوق مرتبطة بحقوق الإنسان، وبمقتضاها يكون لكل إنسان حقّ في موارد البلد الذي يعيش فيه، فلا يجوز أن تستأثر بهذه الموارد أسرة أو قبيلة أو طائفة.
*******
الرسول عندما وقع وثيقة المدينة مع اليهود كان بمصطلح العصر الحديث يأخذ بمبدأ المواطنة حيث يمكن لفئات متعددة الأديان أن تتعايش سلميا على أرض واحدة وأن تتعاون لمصلحة الجميع وللدفاع عن أرضهم المشتركة.
ولكن الأخذ بمبدأ المواطنة لا يعني أبدا أن يتخلى المسلم عن دينه ولا أن يتخاذل في الدفاع عنه ولا أن يقصِّر في الدعوة إليه.
*******
إنه ليس ثمة تناقض بين الإسلام وبين الوطنية، والوطنية هي مصطلح حديث معبر عنه في القرءان بلوازمه ومقتضياته، فالوطن هو الديار والأهل والأموال والأصحاب وهو الأمن من الخوف والجوع، والمسلم هو ملزم بالدفاع عنه ضد أي معتدٍ مهما كانت عقيدته، ومن المشاعر الفطرية أن يحب الإنسان وطنه، والإسلام هو دين الفطرة، والوحدة الدولية التي تقرر للإنسان هويته على المستوى العالمي الآن هي الوطن.
وكل وطن يتضمن مجموعة من الطوائف والتجمعات والأمم، ويمكن تصنيف المواطنين من حيثيات عديدة، وبغض النظر عن الظروف التي أدت إلي تلك التعددية فإن كل الطوائف الموجودة في وطن واحد يجب أن تتعايش تعايشا يضمن حقوق كل فرد ويحميه من تجاوزات الآخرين، لذلك فلابد من اجتماع ممثلين لكافة الطوائف ووضع ميثاق يتضمن أسس هذا التعايش، ودين الحق يتضمن ما هو كافٍ من القيم والسنن لتحقيق التعايش البناء المثمر بين شتى الطوائف التي تعيش في وطن واحد، فإن رفضوه فمواثيق حقوق الإنسان وغيرها هي أفضل ما يمكن أن تتفق عليه كل الطوائف، ويمكن في حالة إجماع كافة الطوائف الممثلة للأمة أن تتخذ من الإجراءات ما يضمن الحفاظ علي قيمها المشتركة وأن تضمن أسس ذلك ميثاقها.
ولا يجوز لأحد محاولة إحياء النعرات التي تؤدي إلى تمزق الأوطان، فأكثر الكيانات السياسية الموجودة الآن لم يكن لها وجود ككيانات منذ قرن مضى، وأكثرها مدين بوجوده ككيان إلى الإمبريالية الغربية، والكيانات التي حافظت على ترابطها الوطني منذ الزمن القديم قليلة جدا، ولا توجد دولة الآن لم يهاجر إلى أرضها أحد أو لم يهاجر منها أحد، والشخص الذي يستطيع الآن أن يحصل على الجنسية الأمريكية أو الإنجليزية بكل سهولة أو أن يحصل عليها لابنه المولود هناك لمجرد أنه وُلد هناك ليس من حقه أن يزعم أن له حقوقا في بلده أكثر من حق من استوطنها من غير طائفته لمجرد أنه يتصور أن أسلافه قد أتوا إليها قبل أسلاف الآخرين، فمن انتمى إلى وطن وربط مصيره به يحمل بالضرورة هوية هذا الوطن.
أما المذاهب التي حلَّت محل الإسلام فهي تتضمن كل ما يكفي لتحويل البشر إلى وحوش مفترسة أو حشرات ضارة وكل ما يكفي لتأجيج نيران الكراهية والبغضاء والحروب الأهلية وكل ما يكفي لتدمير البلدان والأوطان، ولا ينقذ الناس من شرها إلا جهلهم بها أو وجود سلطة قاهرة يخشونها وتحمي الناس من شرهم.
*******
الوحدة الدولية الآن هي الوطن، ولكل من يستوطن بلدًا ما كافة حقوقه كمواطن، وليس لأي طائفة لمجرد أنها تتبع دينًا من الأديان أو مذهبا من المذاهب أن تعتدي على حقه هذا، ويجب أن تتضمن قوانين أي بلد ما يكفي لتأكيد حقوق المواطنة، وهي من فروع حقوق الإنسان، وكلها متسقة مع دين الحق.
*******
لا يوجد أي تناقض بين دين الحق وبين المواطنة، الوطن هو بيت الإنسان الكبير، وهو يتضمن الديار بالمصطلح القرءاني، ولا يجوز إخراج أحد منه لأي سبب من الأسباب، وهذا الإخراج من الموجبات الشرعية للقتال، بل إن متبع دين الحق ملزم بالقتال في سبيل المستضعفين الذين أُخرجوا من ديارهم، وإذا كان السلف قد تورطوا في شيء من ذلك فقد أجرموا في حق دينهم وفي حق البشرية جمعاء، ولكن المذاهب التي حلت محلّ الإسلام جعلت أفعالهم جزءا من الدين فضلوا وأضلوا، ثم حولوا هؤلاء السلف إلى كيانات مقدسة فأضافوا الشرك إلى جرائمهم!
ولكل مواطن على المواطنين الآخرين وعلى الدولة حقوقه كإنسان وحقوقه كمواطن، وفي مجتمع فيه مسلمون وأهل كتاب يكون على المسلم حقوق أيضاً لأهل الكتاب، وكل واحد منهم هو "صاحب بالجنب" يجوز أيضا الإنفاق عليه من أموال الزكاة عند استحقاقه.
*******
إن مبدأ المواطنة متسق تماما مع الإسلام، الوطن هو بيت الإنسان الكبير، وهو الديار والأهل بالمصطلح القرءاني، فالإسلام أولا يقرر أن كل إنسان لمجرد كونه إنسانا مستخلف في الأرض وحامل للأمانة ومكرم، والمواطن هو شريك للآخرين في امتلاك موارد الأرض التي استوطنها أجداده، وليس لأحد أن يزعم أنه ليس للمختلفين عنه في الدين أو المذهب حق في أرض أجدادهم، والإسلام يكفل حقوقًا عامة لكل مواطن لمجرد كونه من أفراد الشعب المكوِّن للدولة، فهو يكفل له المساواة أمام القانون كما يكفل له حقوقاً عامة بالإضافة إلى الحقوق الإنسانية، فالمواطنة ليست إلا من لوازم وتفاصيل الحكم بالعدل والقيام بالقسط وأداء الأمانات إلى أهلها والقيام بحقوق الصاحب بالجنب واحترام حق الملكية وكرامة الإنسان، وهو مع ذلك من لوازم سلامة المجتمع وتماسكه، فلا يمكن أن يفلح مجتمع منقسم على نفسه، تتربص كل طائفة منه أو شيعة منه بالأخرى.
*******
إن الديار في القرءان هي وطن الإنسان الذي لا يجوز إخراجه منه لأي سبب مذهبي أو عقائدي، فذلك من كبائر الإثم والمحرمات والعدوان الأثيم، وقد توعد الله من يفعلون ذلك بأشد العذاب، قال تعالى:
{ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }البقرة85
وهو سبحانه قد أخذ على الناس ميثاقاً بألا يخرج بعضهم البعض الآخر من ديارهم، قال تعالى:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} البقرة84،
ويلاحظ أنه سبحانه جعل إخراج الناس من ديارهم أمرا خطيرا وذكره مقترنا بسفك دمائهم.
وكذلك جعل الإخراج من الديار من الموجبات الشرعية للقتال، قال تعالى:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ{39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ{40} الحج، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }البقرة246.
ومن المحرَّم أن يتولى الإنسان من أخرج قومه أو مواطنيه من ديارهم، قال تعالى:
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الممتحنة8، {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }الممتحنة9
وكذلك القرية المضافة إلى الإنسان في القرءان هي وطنه، قال تعالى:
{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} محمد13.
والقرية تُطلق على ما يعرف الآن بالدولة كما تطلق على موطن الناس كبيرا كان أم صغيرا، وأهل القرى هم مواطنوها بالاصطلاح الحديث، فقرية عاد كانت كيانا هائلا، وكذلك قرية ثمود، وهما من القرى التي قال الله تعالى فيها:
{ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ }الأنعام131، {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}الأعراف101، {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ }هود100، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }هود102، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}هود117، {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً }الكهف59، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}الأعراف96، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }يوسف109.
*******
إن الوطنية هي إحساس الإنسان بالانتماء إلى الكيان الكبير الذي نبت في أرضه وتربى فيه وأن ثمة انتماءات فرعية عديدة تشده إليه وإلى كل من ارتبط مثله به وانتمى إليه، والوطن هو أرض وشعب، والوطنية تتضمن إدراك الإنسان بوجود مصالح حيوية مشتركة تجمع كل من يشاركونه في الانتماء لنفس الوطن.
والوطنية تستلزم شعبًا مرتبطا بأرض، فلا معنى للوطنية مثلا بالنسبة للبدو الرحل، والوطنية هي شعور فطري، وبالتالي فإن لها مكانها في دين الفطرة الذي حارب القبلية والتعرب أو التبدي، فالوطنية لا تتنافي ولا تتدافع مع الدين، ولكن الدين يعالج الإنسان من الارتباط المرضي بالأرض وشدة الرغبة في الإخلاد إليها والالتصاق بها، وهو يزكي في الإنسان النزعة العالمية، إن دين الحق من مقاصده تعليم الإنسان كيف يتعايش مع الكيانات الأخرى التعايش الأمثل، ولما كانت الوحدة الدولية الآن بحكم الأمر الواقع وتطور العصر هي الوطن فإن من مقاصد الدين أن يتعلم كل كيان إنساني كيف يتعايش مع شركائه في الوطن من أتباع الأديان والمذاهب الأخرى التي قرر الإسلام بكل صراحة أنه لا مناص من وجودها، وكل ذلك بهدف تمكين الإنسان من القيام بواجباته كخليفة في الأرض.
ولما كان دين الحق هو الدين الوحيد الذي يتسم بالكمال والخاتمية والعالمية فإن ذلك يقتضي أن يعلم المسلم أن أهل الكتاب وأتباع الأديان الأخرى بل وأكثر أتباع شتى المذاهب المحسوبة على الإسلام لا يمتلكون القيم أو الآليات التي تمكنهم من التعايش السلمي مع الآخرين، ولذلك على المسلم أن يعمل بمقتضى هذا العلم وأن يلتمس لهم الأعذار على ألا يغفل عن حقيقة ما هم فيه من الضلال، إن ظهور مقتضيات الضلال من أتباع المذاهب التي حلت محل الإسلام والأديان المنسوخة والضالة والمحرفة والاتجاهات التي تستغل الدين للاستيلاء على السلطة هو أمر طبيعي، ذلك لأنه لابد لكل مذهب أو اتجاه من طائفة من شياطين الإنس والجن تتكسب به وتصد الناس عن دين الحق به، إنه لا غرابة في أن يتصف أولئك الأتباع بشتى ألوان الخسة والمغالطة والخيانة والتآمر والوحشية واستعداء الناس على إخوانهم في الوطن الذين لا يتربصون بهم ولا يريدون أكثر من العيش بسلام معهم، إن المذاهب التي حلت محل الإسلام والأديان والمذاهب المنسوخة تحوِّل من اعتنقها إلى وحش كاسر لا يرقب في مواطنيه ولا في أي إنسان مخالف له أو مختلف عنه إلَّا ولا ذمة، ولقد فوجئ المحسوبون على الإسلام في البوسنة بجيرانهم من المسيحيين الأرثوذكسيين يعاملونهم بأقصى قدر من الخسة والغدر والوحشية بمجرد أن أتيحت لهم الفرصة، وكذلك فوجئ المسلمون في شتى الأرجاء بما يفعلهم بهم أتباع المذاهب السلفية الدموية الإجرامية، هذا مع أنه لا مجال لمفاجآت لمن اطلع على نصوص هذه المذاهب وأسسها.
*******
إن ولاء المسلم إنما هو لله ولرسوله ولأمة المؤمنين، قال تعالى:
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }المائدة55،
وهذا الولاء لا يتعارض مع الولاء للوطن والدولة في مثل هذا العصر طالما أن الدولة توفر للأمة المؤمنة السبل للقيام بأركان دينها ولا تضطهدها في دينها، فقوة الدولة من لوازم حماية كل من يعيش على أرض الوطن والحفاظ على أمنه وحقوقه وكرامته، ومن المعلوم أن دساتير الدول المتقدمة تكفل لكل من اكتسب المواطنة فيها كل حقوق المواطنين الآخرين، فمن ارتضى العيش في مثل هذه الدول يكون ملزما بالضرورة بعقد معها يتمثل في دستورها وقانونها، فالدستور والقانون يكفلان له حقوقا ويقرران عليه واجبات.
وإذا كان سدنة المذهب السائد في العالم المحسوب على الإسلام يلزمون المسلم بالخضوع المطلق لمن تسلَّط عليه طالما كان يحمل اسمًا إسلاميا أو سمَّى نفسه خليفة وإن طغى وبغى وجلد الظهور ونهب الأموال طالما لم يمنع أداء الصلاة فكيف لا يلتزم المسلم بعقده وعهده مع نظام يحكم بالعدل ويقوم بالقسط ويتركه يمارس كافة أركان دينه ويحافظ على حقوقه وكرامته ولا يجلد له ظهرا ولا ينهب منه مالاً؟
*******
إن مبادئ وقيم وآليات المواطنة هي من لوازم الحكم بالعدل والقيام بالقسط وأداء الأمانات إلى أهلها وهي من لوازم التصدي للنزعة الفرعونية التي تؤدي إلى استضعاف بعض الطوائف والإفساد في الأرض.
*******
يجب العلم بأن مفهوم الوطن لم يتبلور إلا حديثا، ولم يأخذ معناه الشائع الآن إلا من بعد الثورة الفرنسية، وأن أهل الغرب هم الذين نشروا هذا المفهوم وعمموه حتى أصبح هو المفهوم السائد وتمت صياغة المجتمع الدولي وتقسيمه وفق هذا المفهوم، ولم يكن لدى المحسوبين على الإسلام من علم بالقوانين والسنن والقيم اللازمة لكي يتعايش الناس في كيانٍ كهذا، ولقد تصور أتباع الأديان التي حلَّت محل الإسلام في كل دولة محسوبة على الإسلام أن من حقهم أن يطبقوا على أتباع المذاهب والأديان الأخرى أحكام الصغار التي أحدثها أسلافهم الضالون، وكان هذا من أسباب المآسي التي تعيشها هذه الدول، فأتباع الأديان التي حلَّت محل الإسلام يتم برمجتهم منذ صغرهم على العداء لكل من يختلف عنهم ووجوب القضاء عليه أو على الأقل قهره وإذلاله.
*******
إن الوطنية ليست مجرد انتماء إلى رقعة جغرافية، ولكنها انتماء إلى كيان واحد مستمر ومتجدد عبر العصور يتضمن الشعب بكافة طوائفه وصوره على مدى العصور كما يتضمن الأرض والتاريخ والواقع والمصالح المشتركة، والوطنية الآن هي أمر حقيقي واقع وماثل، وكل دولة بل كل كيان إنساني ينتمي إلى وطن معين ملزم بالدفاع عن حقوق وطنه من حيث هو وطن وعن حقوق مواطنيه أمام كل الأعداء والخصوم، ولا يوجد في ذلك ما يتعارض مع الدين، فالإسلام يحرِّم ويجرِّم الإثم والبغي والعدوان، إن الوطن الآن بالنسبة إلى شعب ما هو بمثابة البيت للإنسان أو للأسرة، وهو المعبر عنه بالديار في القرءان.
*******
إن الأساس في الدولة الحديثة هو المواطنة، وهؤلاء المواطنون في كل دول العالم الآن تتعدد أعراقهم وأديانهم وألسنتهم، والحكم بالعدل والقيام بالقسط يستلزم التسوية بينهم أمام القانون، وما دام المواطنون في الدولة الواحدة الآن لا ينتمون إلى دين واحد أو حتى إلى نفس المذهب في نفس الدين بل تتقاسمهم أديان ومذاهب متعددة ففي التزام الدولة بدين واحد وبالتالي بمذهب واحد افتئاتا على حقوق المواطنين المنتمين إلى الأديان أو المذاهب الأخرى لذلك يجب أن تكون الدولة دولة علمانية محايدة لا تتقيد بدين معين ولا تحارب ديناً ولا تضطهد معتنقيه، بل تترك أمر الدين للمواطنين يختارون منه ما يشاءون، إن كل هذا لن يضير المسلمين في شيء في البلدان التي يتمتعون فيها بالأغلبية العددية وسينتفعون به في البلدان التي يكونون فيها أقلية وسيتمكنون من الدعوة إلى دينهم في قلب الدول التي يزعم لهم المتكسبون بالدين أنها ألد أعداء الإسلام والمسلمين وأنه لا هم لها إلا التآمر ضد المسلمين.
إنه من الخير للمسلمين كأقلية في الغرب أن يتبنوا مبدئي العلمانية والمواطنة، وأن يعملوا على الاندماج الواعي في المجتمع الذي يعيشون فيه، ولذلك عليهم أن يحترموا قوانين البلد الذي يعيشون فيه طالما لم يضطهدهم في دينهم، وقبول المسلمين بذلك لا يعني بالضرورة رفضهم لأحكام الشريعة، ذلك لأن مذهبهم السائد الذي يظنون أنه الدين يلزمهم بالقبول بحكم ألد أعداء الشريعة الحقيقية؛ وهم المتسلطون عليهم، وهو يلزمهم بطاعتهم مهما طغوا أو بغوا أو جلدوا الظهور أو نهبوا الأموال طالما لم يعطلوا إقامة الصلاة، ولقد التزموا بذلك على مدى حوالي أربعة عشر قرنا، لذلك فحكومات الغرب أولى بالطاعة لأنها لا تعطل إقامة الصلاة، ولا تطلب من الناس ثمناً لذلك بل تعتبره حقاً لهم، هذا فضلا عن أنها لا تفعل ما كان يفعله المتسلطون المحسوبين على الإسلام من الخلفاء وغيرهم على مدى القرون.
*******
طبقا لدين الحق فإن كل الطوائف والأمم التي تتعايش في بلد واحد ملزمة بالتعايش السلمي فيما بينها، ودين الحق يزود الأمة المسلمة بالسنن والقيم والآليات اللازمة ذلك، ومن الوسائل العصرية اللازمة لتحقيق ذلك الاتفاق على دستور يتضمن المبادئ الأساسية المتفق عليها من الجميع، وكل مواطن في دولةٍ ما يجب أن يتعلم دستور بلده وأن يربى على احترامه، وبذلك يتعلم كل فرد ألا يتجاوز حدوده وألا يتحرك فيما يختص بحقوق الناس إلا في إطار هذا الدستور وأن يتعلم أن انتهاك الدستور أو اتباع سياسة الإملاءات هي من كبائر الإثم وهي من العار المهين، كما يجب أن يتعلم أن شرفه هو في اتباع الدستور والقانون.
ومن قبل أن تتحرر كل دول الشرق أو تدخل العصر الحديث ومن قبل أن تعرف أكثر دول العالم شيئا عن الدستور كان رجل الشارع في مصر يتظاهر مطالبا بالدستور أو بالعودة إلى تفعيل الدستور، ذلك لعلمه أن الملك وكل الأحزاب التي كانت قائمة كانوا لا يجرئون على مخالفة الدستور!! والمقصود دستور 1923، وهو أفضل من الدستور الحالي!! كان ذلك بالطبع من قبل أن تظهر أحزاب تجار الدين وإخوان الشياطين!
ولقد كان من العوامل التي أدت إلى تقويض التجربة المصرية الليبرالية التي سادت حتى ثورة يوليو هو ظهور الحركات الفاشية وتجار الدين وعبيد أوهام الخلافة وما أحدثوه من فوضى، وكل ذلك ولد ردّ فعل حاد لدى المصريين استجابت له المؤسسة العسكرية فكانت ثورة يوليو، وقبل ذلك لم يكن من الممكن خداع الفلاح في قريته باسم الدين؛ إذ كان يصوت تلقائيا لصالح حزب الوفد ذي الاتجاهات الوطنية، وهذا يبيِّن مدى جناية حكم الاستبداد وفاشية تجار الدين على شخصية المصري.
*******
إنه في العصر الحديث وبعد أن أصبح الوطن متعدد الأعراق والطوائف والأديان والمذاهب هو الوحدة الدولية وبعد أن صارت الهوية هي الوطنية فإنه على الأمة الإسلامية في كل وطن أن تعتصم بمنظومة القيم الإسلامية وبالآليات التي يوفرها لها الإسلام للتعامل والتعايش مع الآخرين ومن ذلك:
1- الإيمان بالإخاء الإنساني وبوحدة الأصل الإنساني وهذا يحتم الأخذ بمبدأ المساواة والذي يقتضي أن يكون الجميع سواء أمام القانون المرتضي فلا ينال أي فردٍ امتيازاً أو مزايا بسبب عنصره أو سلالته أو لسانه أو دينه أو مذهبه أو أسرته أو وظيفة أحد أقربائه أو مكانته.
2- احترام حرية كل إنسان في اعتناق أي دين أو مذهب واحترام حريته الفكرية وحريته في تلقي العلم وفي العمل الذي يلائم تأهيله وإمكاناته.
3- ألا يتولى أي أمر إلا من كان أهلاً له وفقاً لآليات متفق عليها من الجميع.
4- أن تكون الشورى بين شتي الطوائف والعناصر هي آلية الوصول إلى القرارات التي تمس مصالح الناس وأمور وطنهم.
5- رفض كل عناصر المنظومة الشيطانية من ظلم وكفر واستبداد ونفاق وجهل.
6- احترام حقوق الإنسان وهذا يتضمن احترام حقوق الإنسان كفرد واحترام حقوق كل كيان إنساني أكبر بدءًا من الأسرة إلي الطائفة أو الأمة، وكل كيان إنساني ملزم باحترام حقوق الكيان الآخر وهذا الاحترام يجعل من صيانة تلك الحقوق واجبات علي كل هذه الكيانات، ولكل كيان حقه في أن يعامل بالعدل والقسط وأن يؤدَّي إليه ما هو أهله من الأمانات وألا يعتدي علي حقوقه وألا يؤاخذ بجريرة غيره، ومن حقوق الإنسان الفرد الحفاظ علي كيانه وبنيانه وتوفير كل ما يلزم لصيانة بنيانه وكيانه وتزكيته وألا يتهم دون بينة وأن يدافع عن نفسه وذويه وأن يحاكم بالعدل وألا يجرَّم إلا بمخالفة منصوص عليها في قانون وألا يعاقب إلا في إطار القانون وأن تصان كرامته وشرفه وأن تحترم خصوصياته وألا ينتزع منه إقرار بوسائل غير مشروعة وأن يحترم حق منتحلي كل دين أو مذهب في الاحتكام إلي شرائعهم في الأمور الشخصية والأسرية إلا إذا ارتضوا أن يتحاكموا إلي الشريعة الإسلامية بمحض إرادتهم، ومن الحقوق والأمور الملزمة شرعاً احترام كافة حقوق أولي أي أمر، حق كل إنسان في استعمال ملكاته الذهنية في كافة الأمور وعرض نتائج هذا الاستعمال علي الآخرين، حق الحصول علي المعلومات، حق كل إنسان في الانتفاع بما هو مستخلف فيه من الأشياء المادية وغيرها ومما يمكن أن يقوم بمال.... إلخ.
*******
إنه لا تعارض بين أية قيمة من قيم الإسلام وبين مبدأ المواطنة، بل إن الإسلام يلزم الإنسان بواجبات تجاه وطنه وتجاه من يشاركونه نفس الوطن، ولكن لا يجوز اتخاذ مبدأ المواطنة وسيلة لتقويض الأديان ولا للتعصب ضد الحقانية والموضوعية ولا لتقديس أخطاء شعب معين ولا للتعصب له بالباطل ولا للاستعلاء على الآخرين، ولا للعلو على القانون، وإنما يتضمن هذا المبدأ اشتراك جميع المواطنين في ملكية موارد وطنهم والتسوية بين من ينتمون إلى وطن واحد أمام القانون وفي الحقوق العامة والواجبات والفُرص وإيمان الجميع بوحدة مصالحهم، ويجب العلم بأن إخراج أي إنسان من دياره هو من كبائر الإثم ولا يمكن التقرب إلى الله باقتراف الآثام.
*******
أما تصرفات الخوارج الجدد مثل الإخوان وغيرهم فهي تحسب عليهم كجماعة من جماعات القرون الوسطى مثل الحشاشين أو فرسان المعبد، ولا تُحسب على الإسلام.
والمسلم يتعبد لله تعالى باحترام حقوق الإنسان وكرامته، ومن حقوقه العمل والدين والمذهب وأن ينال الأمانة التي يستحقها بحكم كونه إنسانا وبحكم تأهيله، وولي الأمر ملزم بالحكم بالعدل والقيام بالقسط وأداء الأمانات إلى أهلها.
*******
إن الوحدة الأساسية في هذا العصر هي وجود وطن يقوم فيه كيان يسمى بالدولة (بالمفهوم الحديث)، وهذا أمر مستجد لم يكن قائما من قبل، وكان علي المتصدرين للعمل في الأمور الدينية أن ينظروا لهذه الأوضاع ويظهروا للمسلمين الأسس والآليات الأمثل التي تكفل لهم التعايش مع هذه الأوضاع والاستفادة الأمثل منها، ولكنهم لم يفعلوا فتصدي للأمر بعض الجهلة والمتطرفين فضلوا وأضلوا وهلكوا وأهلكوا ولم يفلحوا إلا في توحيد كل الدول والأمم ضد الإسلام والمسلمين، بل إنهم أثاروا كثيراً من المسلمين ضد الإسلام والمسلمين، والحق هو أنه ما من وطن موجود الآن إلا وتتعدد فيه السلالات والملل والأديان، والمقصد الديني الخامس يوفر للمسلمين وللبشرية الأسس والمبادئ والمعلومات اللازمة للتعايش السلمي ولتعاون الجميع للقيام بواجبات حمل الأمانة والاستخلاف في الأرض، ولتحقيق هذا المقصد يجب علي المسلمين تشكيل هيئات مدنية لا شأن لها بما يعرف الآن بالسياسة تتولى تعليم الناس أسس دين الحق وتتولي شتي الأمور المنوطة بالأمة المسلمة مثل وضع الآليات اللازمة للقيام بأمور الدين وبأركانه الواجبة علي الأمة ولتحقيق مقاصده العظمى، إنه يجب أن يتعلم المسلمون كيف يعيشون ككيان مدني موحد متماسك يدبر ما يتعلق بأمور دينه ويعمل علي تحقيق مقاصده دون افتعال صراعات لا مبرر لها مع الكيانات الأخرى التي يتعايشون معها ودون أن يتورطوا فيما يهدد أمن تلك الكيانات ودون سعي إلي التسلط علي الآخرين.
*******
إن الدولة بمفهومها العصري الحديث هي أمر مستحدث مترتب علي كل ما سبقه من تطورات تاريخية وإنسانية، وهي تختلف اختلافًا بينًا عما كان يسمي بالدولة الأموية أو الدولة العباسية أو الدولة الإخشيدية، والحق هو أنه لا يوجد لفظ في اللغة العربية يصلح للتعبير عن ذلك المفهوم وإنما الذي جري هو إكساب كلمات ذات معانٍ قديمة دلالات حديثة، وربما يمكن تعريفها بأنها ذلك الكيان الذي يتولى إدارة أمور كيان بشري جغرافي يعرف الآن بالوطن، وهو يعني شعبا (بالمفهوم الحديث) يعيش علي أرض تحدها حدود سياسية معترف بها، فمفهوم الدولة يتسع ليشمل الأرض ومن عليها والأجهزة القائمة على إدارتها، والكلمة التي هي أقرب إلى هذا المعنى في القرءان هي "القرية"، فلا علاقة لمفهوم "القرية" في القرءان بالمفهوم الدارج الآن، فالقرية في القرءان هي المصر أو البلد الجامع ذو الكيان والبنيان، ولذلك يٌطلق مصطلح القرية على "عاد" و"ثمود" و"مصر" و"مكة" وعلى كل الكيانات التي ستظهر إلى يوم القيامة.
وفي التاريخ القديم لا يكاد هذا التعريف ينطبق بمفهوم أشبه بمفهومه الحديث إلا علي حالة مصر القديمة ولكن الحدود لم تكن محددة بدقة الحدود السياسية الحديثة وإنما كانت حدودا جغرافية، فالدولة الآن هي الكيان السياسي والإداري الذي يسيِّر ويصرف الأمور في وطن يعيش عليه شعب قد يتكون من أعراق مختلفة وقد يعتنق أفراده ديانات مختلفة أو مذاهب مختلفة داخل نفس الدين، والمسلمون الآن في وطن من الأوطان قد يكونون أكثرية وقد يكونون أقلية، وبغض النظر عن العوامل التاريخية التي أدت إلي نشأة كل وطن علي حدة أو انقسام كيان كان موحدا أو اتحاد كيانات كانت في الأصل منفصلة فإن تلك الصورة هي صورة مستحدثة ولا يجوز إجراء الأحكام الخاصة بالكيانات السابقة عليها بالقياس، ولقد كان واجبا علي المتصدرين للعمل في الأمور الدينية أن يعدُّوا للأمر عدته وأن يبينوا وأن يستنبطوا للمسلمين كل ما يلزمهم من المبادئ والأسس والآليات التي تمكنهم من التعايش مع الأمور العصرية المستجدة، ولكنهم كما هو منتظر من رجال كهنوت يعبث بهم الشيطان كيف يشاء ويستعملهم للقضاء علي الإسلام والمسلمين وقفوا عقبة في سبيل تقدم المسلمين أو تركوهم ليسلكوا كل سبيل خاطئ يكبدهم كما يكبد الإسلام باستمرار خسائر فادحة، ولذلك يجب القول بأنه ليس من حق أية فئة تظن أنها تمثل الإسلام (فما ألقي فيهم هذا الظن بكل تأكيد إلا الشيطان) أو تدعي أنها تمثله أن تتصرف استنادا إلي زعمها أو ادعائها ولا يجوز لها أن تخرج علي المسلمين شاهرة سيوفها أو سلاحها بعد إجراء اللازم من تكفير الآخرين، فأمثال هؤلاء مالهم من ناصرين، وهم فضلا عن ضلالهم وعن الخسائر التي ستتكبدها الأمة بسببهم لن يزيدوا بفعلهم هذا النظم الطاغوتية والجهلوتية إلا شراسة وقوة ومنعة وإجراما وسيفتحون أعينهم علي ثغرات غفلوا عنها ولم يحكموا سيطرتهم وتسلطهم عليها، هذا فضلاً عن تعبئة وتوحيد الجهود علي كافة المستويات ضد الإسلام والمسلمين، ولا سبيل إلي الإصلاح برفع شعارات مثل العودة إلي الإسلام أو الإسلام هو الحل، ذلك لأن كل طائفة تقصد بالإسلام مذهبا من المذاهب التي انتهي من قديم عمرها الافتراضي وجمدت وحنطت في القرون المظلمة أثناء حروب الصليبيين والمغول ولم توضع أساسا إلا بعد تحريف الدين واختزاله ولتمكن الناس من التعايش مع النظم الطاغوتية التي بدأت بالأمويين، فلا يجوز التضحية بالأمة وبالإسلام في سبيل الحفاظ علي مذاهب محنطة ثبت فشلها الذريع علي مدي القرون، ويجب العلم بأن أحوال المسلمين الآن رغم كل شيء هي أفضل بكثير من أحوالهم في ظل تسلط الأمويين والعباسيين والعثمانيين، لذلك ففي ظل جهل المسلمين بدين الحق ليس ثمة من سبيل إلا العمل على إرساء قواعد العلمانية الصحيحة وتكريس وترسيخ حرية الرأي والفكر واتخاذ كل ما يلزم للتصدي للتطرف وللحفاظ علي الأمن العام وترسيخ مبدأ المواطنة وتفعيل كل آليات المقصد الديني الأعظم الخامس وإنشاء مؤسسات إسلامية مدنية لا شأن لها بالأمور السياسية تعمل علي تحقيق مقاصد الدين الحقيقية بالقيام بأركانه الملزمة للأمة ولمساعدة الفرد المسلم علي القيام بالأركان المنوطة به كفرد.
*******
مفهوم "الوطن" معبر عنه بمقتضياته ولوازمه في القرءان، فهو المفهوم الجامع لما يلي: الـديار، المال والممتلكات، الأهل، ذوو القربى الجار الجُنب، الصاحب بالجَنب.
فمن يسعون لإخراج الناس من ديارهم بغيا وعدوانا وظلما هم مجرمون آثمون، وهم من مظاهر إبليس اللعين.
ومن الواجب على كل إنسان أن يدافع عن وطنه بمثل ما يدافع عن بيته وماله وعرضه وأهله وجيرانه وأصحابه، هذا هو ما يقول به دين الحق.
أما من يقاتلون في سبيل إقامة خلافة داعشية مثل الخلافات الأموية والعباسية والعثمانية أو يخونون أوطانهم من أجل ذلك فهم مجرمون آثمون وهم من مظاهر إبليس اللعين، وهم إن قُتلوا فقد خسروا الدنيا والآخرة!
*******
يزعم السلفية والخوارج الجدد وغيرهم من الفئات الإجرامية الضالة وحثالة دواب الأرض أنه لا وجود لمفهوم الوطن في الدين، وأن من قتل دفاعا عن وطنه قد أضاع نفسه مجانا!! والحق هو أن الوطن معبر عنه في القرءان بلوازمه ومقتضياته، فهو بالنسبة لكيان الأمة هو (الديار + الأهل + الأموال + الجيران ذوي الْقُرْبَى + الجيران الْجُنُبِ + الأصحاب بالجنب).
فالدفاع عن هؤلاء هو قتال في سبيل الله تعالى، فمن قتِل دون شيء من ذلك فهو شهيد.
كل ما في الأمر أنه أصبح هناك اصطلاح حديث يعبر عن كل ذلك، فالوطن هو بالنسبة لكل هؤلاء هو البيت الكبير الذي يجب أن يدافع عنه وإلا فسيتحول إلى لاجئ طريد شريد.
وها أنتم ترون كيف أُخرج العراقيون والسوريون من ديارهم بغير حق بسبب عدوان من عصابات همجية إرهابية مسلحة، فالترويج لأفكار وعقائد معادية لفكرة الوطن هي عمل من أعمال الخيانة العظمى ولا يريد الأعداء أكثر من شيوع مثل هذه الأفكار لتدمير البلاد التي تشكل خطرا استراتيجيا عليهم.
ويجب على من يسكنون وطنا واحدا أن يتعاونوا للدفاع عنه ضد من يحاول الاعتداء عليه رافعا أي شعار، فبافتراض أن أحد حكام دولة مجاورة لمصر مثلا هاجمها بحجة أنه خليفة (طبقا للمذهب الأعرابي الأموي يمكن أن تنعقد البيعة بعدد محدود ممن يزعمون لهم أنهم أهل الحل والعقد!!!!!!!!!!) ويزعم أنه يريد توحيد المسلمين لتحرير بيت المقدس أو بيت المدنس أو أي بيت آخر فيجب على المصريين أن يقاتلوه دفاعا عن بلادهم وأن يجعلوه نكالا لما بين يديه وأن يشردوا به ما خلفه.
*******
1