top of page

نظرات في المذاهب

40

الظَّــاهِـر والـمـــؤَوَّل

الظاهر لغة: الواضح والبين، واصطلاحا: ما دل بنفسه على معنى راجح مع احتمال غيره.

والعمل بالظاهر واجب إلا بدليل يصرفه عن ظاهره.

والمؤول لغة هو من الأَوَل وهو الرجوع، والمؤول اسم مفعول من التأويل، وفعله آل يؤول، بمعنى: رجع، فيكون المؤول بمعنى المرجوع به، والتأويل بمعنى الرجوع.

وفي الاصطلاح: المؤول: هو اللفظ المحمول على الاحتمال المرجوح بدليل، سمي بذلك لأن المؤوِّل يرجع معنى اللفظ إلى المعنى البعيد الذي لم يكن موضوعا له لدليل يذكره.

فالمؤوَّل هو: اللفظ المصروف عن ظاهره بدليل، فإن كان الدليل قويا يقتضي رجحان الاحتمال الذي كان مرجوحا لولاه فهو تأويل صحيح، وإلا كان باطلا.

فالتأويل الصحيح: حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل قوي يقتضي ذلك.

والتأويل الفاسد: حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل ضعيف لا يقوى على صرف اللفظ عن ظاهره.

قالوا: مثال للتأويل الصحيح؛ تخصيص العام بدليل خاص، مثل تخصيص قوله تعالى: 

{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة275]

 بالأحاديث الدالة على تحريم البيع على بيع أخيه، والبيع مع النجش، وبيع الحصاة ونحوه من بيوع الغرر.

البيع هو مصطلح شرعي، وبالتالي فهو محكوم بكل عناصر دين الحقّ ذات الصلة، فكل بيع بالمعنى اللغوي تضمن إخلالا بعنصر من عناصر دين الحق ليس ببيع بالمعنى الشرعي، وتكون قوة النهي عنه متناسبة مع قوة العنصر الذي خالفه.

فالبيع في ذاته حلال، لا ريب فيه، والنهي إنما يكون لصفة في البائع تظهر في عملية البيع في الغش أو الظلم.

***

والمؤوَّل هو: اللفظ المصروف عن ظاهره بدليل، فإن كان الدليل قويا يقتضي رجحان الاحتمال الذي كان مرجوحا لولاه فهو تأويل صحيح وإلا كان باطلا.

فحينئذ نقول: هذه الآية مصروفة عن عمومها الذي كان هو المتبادر من اللفظ، والصارف لها الأدلة السابقة.

ومثله تأويل قوله تعالى: 

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل98]،

 على أن المراد: إذا أردت قراءة القرآن، وليس المراد إذا فرغت من قراءته كما يفيده ظاهر اللفظ من حيث الوضع. ومثله قوله تعالى: 

{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة6]،

 فإنها مؤولة عن ظاهرها، والمقصود: إذا أردتم القيام للصلاة؛ لأن الوضوء يسبق القيام للصلاة.

شروط التأويل الصحيح:

لصحة التأويل شرطان

1 ـ أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذي يراد صرفه إليه في لغة العرب، أو في عرف الاستعمال، وهذا يعرف بمعرفة وضع اللفظ في اللغة أو معرفة عرف الاستعمال عند أهل اللغة أو عرف الشرع وعادته.

2 ـ أن يقوم على التأويل دليل صحيح، إما من السياق الذي جاء فيه اللفظ أو من دليل آخر لا يمكن الجمع بينه وبين هذا الدليل إلا بتأويل أحدهما.

مثال ما استدل على تأويله بالسياق قوله تعالى: 

{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران173]،

 فلفظ الناس الوارد أولا يجب تأويله عن ظاهره ليكون المراد به فئة قليلة من الناس، بدليل قوله بعد ذلك: 

{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}،

 وبدليل قوله في صدر الآية: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}، فالسياق يدل على أن هناك قائلا ومقولا له، ومخبرا عنه بالإضافة إلى دلالة الحس، على أن أكثر الناس في أقطارهم لا علاقة لهم بالواقعة.

ومثله: حمل اللفظ على المجاز لقيام القرينة، كقولك: رأيت أسدا متقلدا سيفا.

ومثال ما كان دليل التأويل فيه مستقلا: التخصيص بالمخصصات المنفصلة، وحمل المطلق الوارد في موضع على المقيد في موضع آخر.

وقد تقدمت له أمثلة كثيرة. تنبيه:

لفظ التأويل لم يرد في الشرع مرادا به حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح لدليل أقوى، كما هو في الاصطلاح، وإنما جاء لفظ التأويل في نصوص الشرع للمعاني التالية:

1 ـ ما يؤول إليه الأمر، مثل حقائق ما أخبر الله عنه من البعث والحساب ونصب الموازين ونحو ذلك، ومن ذلك قوله تعالى: 

{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران7] 

بناء على الوقف عند لفظ الجلالة.

2 ـ التفسير، كما في قوله تعالى: 

{وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف44]

 أي: بتفسيرها.

3 ـ صرف اللفظ عن معناه الصحيح إلى معنى فاسد غير مراد، أو تفسير المتشابه تفسيرًا مغرضًا، وهو المشار إليه في قوله تعالى: 

{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران7]،

 ويمكن أن يحمل لفظ التأويل هنا على المعنى الثاني وهو التفسير، ولكن لما عطف على المذموم وهو اتباع المتشابه ترجح أن يكون مذموما وناسب أن يكون معنى ثالثا.

وهذا الاستقراء لمعاني التأويل في الكتاب والسنة حمل بعض العلماء إلى النفرة من التأويل وذمه، مع أنه بالمعنى الاصطلاحي يشمل المحمود والمذموم، والمحمود لا يمكن أن يتجنبه أحد من علماء الشريعة؛ وذلك لأنهم يعدون التخصيص وحمل المطلق على المقيد، وحمل اللفظ على المجاز لقرينة، والجمع بين النصوص بأي طريق، من التأويل، وهل يمكن أن يستغني أحد من علماء الشريعة عن ذلك كله؟!

1

bottom of page