ثورة يناير (مجموعة قصصية)
وجدي الحـرّ
نشأ وجدي في شبرا، كان والده معلما للغة العربية، تلقت أمه تعليما أوليا بسيطا ثم انقطعت عن التعليم إلى أن تزوج بها والده وأنجبت له مجموعة من الأبناء كان أكبرهم وجدي، كان يتميز بالذكاء الحاد بل بالنبوغ المبكر بالإضافة إلى ذاكرة قوية ماضية، كان يتسم أيضا بالشجاعة التي قد تنقلب إلى تهور، كان أيضًا عصبيا حاد المزاج سريع الغضب ترتع شفتاه إذا رأى ما يغضبه أو يغيظه، ولكنه كان أيضًا حييا رحيما، نشأ محبا للعدل كارها للظلم مراعيا لمشاعر الآخرين.
في طفولته تعود والده أن يصطحبه كل يوم جمعة إلى المسجد القريب من المنزل حيث كان يتولى الخطابة أحد المشايخ المشهود لهم بالكفاءة والقدرة على جذب اهتمام المستمعين وتحريك مشاعرهم، كان هذا الشيخ سلفيا، كان وجدي يستمع إليه بانبهار، كان يدهشه ذلك الحجم الهائل من المعلومات الدينية الذي يمتلكه ويجيد توظيفه، كان يتمنى أن يكون يومًا ما مثله.
كان أسعد أيام طفولته هي أيام رمضان حيث كان يصلي التراويح خلف هذا الشيخ، كان أيضًا ينصت باهتمام إلى الدروس الإضافية التي كان الشيخ يلقيها بعد صلاة التراويح، كانت تلك الدروس تزوده بقدر هائل من المعلومات الدينية كان يحفظها لتوَّه لما كان يتمتع به من ذاكرة قوية، استمر الأمر على ذلك طوال فترة دراسته الابتدائية.
كان أيضا مواظبًا على الاستماع إلى القرءان الكريم مجوَّدا، كان له قراؤه المفضلون، كان أيضا حريصا على قراءته بنفسه وحفظه.
بالإضافة إلى كل ذلك كان محبا للشعر والأدب، كان حريصا على شراء الجرائد والمجلات وقراءتها، مما كان يستهويه القراءة في الأديان الأخرى وأساطير الأولين وخاصة أساطير الإغريق، كان يضحك مما يروونه عن أربابهم غريبي الأطوار الذين لا يكفون عن العراك واستغلال البشر والتلاعب بهم في حين لا يجرؤ إنسان على أن يقحم نفسه من شئونهم، كان يحمد ربه دائما أن خلقه مسلما.
وجد نفسه نتيجة لكل ذلك متفوقا على الآخرين في مجالات عديدة، عندما كان يجلس مع ضيوف والده كان يجد في نفسه أجوبة لمعظم ما يطرحونه من مسائل أو يجد تعليقات نافعة على المسائل المطروحة للنقاش، نتيجة لما طُبع عليه من الشجاعة وربما الوقاحة كان يقحم نفسه في تلك النقاشات ولا يتردد في إبداء رأيه، كان بذلك يسبب حرجًا شديدا لوالده الذي كان يخشى عليه أيضا من عيونهم، ولكنه في الوقت ذاته كان يسعده النبوغ المبكر لابنه ويتمنى له مستقبلا زاهرا.
وهكذا نشأ وجدي متضلعا من العلوم الدينية معتنقا للمذهب السلفي يؤمن إيمانا راسخا بأن السلف قد بتوا في كل شيء وحسموا كل أمر وأن الأوائل ما تركوا للأواخر شيئا وأن الخير في اتباع من سلف وأن الشر في ابتداع من خلف وأن أسمي ما يمكن لمثله أن يتطلع إليه أن يحاول استيعاب آثارهم والتأسِّي بهم، كان صوت الشيخ يدوي دائما في أذنيه وهو يقول: إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
كانت الأسماء الغريبة التي يجلجل بها شيخه تبعث في قلبه الهيبة خاصة إذا ما أخذ الشيخ يسرد العنعنات المعلومة والتي يرد فيها أسماء أساطين المحدثين الغريبة المجلجلة، أما السلف فكانوا يتراءون له كأنصاف آلهة أو كأرباب تشرفت الأرض يوما ما بوجودهم وعاشوا في زمن سعيد وعصر ذهبي، كان يؤمن إيمانا لا يتزعزع بأن لهذه الأمة أن تباهي بهم الأمم التي عجزت أن تنجب أمثالهم، كان هذا إيمانه بحكم الحال وإن لم يصرح به أو لم يعرف كيف يصرح به بلسان المقال.
لم يكن وجدي متحذلقا متنطعا ولا كان فظا غليظ القلب، بل كان نقي النفس طاهر السريرة محبًّا لله ورسوله، يحب الحق والعدل، يكره الظلم وترتعد شفتاه عندما يرى إنسانا يتعرض لظلم أو حيوانا يقسو عليه الأطفال، لقد نشأ كذلك، كان –في صغره- عندما يرى أحدا يضرب قطة أو يرجم كلبا بالحجارة يصرخ ويبكي.
ظل وجدي على قناعاته الأساسية طوال المرحلتين الابتدائية والإعدادية، اجتاز هاتين المرحلتين بسهولة وتابع تفوقه بالحصول على مجموع مرتفع في الشهادة الإعدادية، ازداد تشبثه بما تعلمه وتعمقه فيه طوال المرحلة الإعدادية.
أتيح لـ"وجدي" في العطلة الدراسية أن يذهب إلى قريتهم في دلتا النيل، أدهش الناس هناك باتساع معارفه وحضور بديهته بينما ضاق هو ذرعًا بما يتباهون هم به من القسوة والغلظة وتحجر المشاعر.
كان يشغل نفسه عنهم بالتأمل في مظاهر الطبيعة غير المألوفة له وبمداعبة أنعامهم والإحسان إليها، وبالطبع كان يحزّ في نفسه ما تتعرض له هذه الأنعام من سوء المعاملة.
ذات يوم كان منفردا بنفسه في إحدى غرف الدار العتيقة، كان يعاني من الملل والضجر، وجد حاوية كتب صغيرة مغلقة بقفل، كانت الكتب كثيرة بحيث أن باب الحاوية كان مفتوحاً بما يسمح بإخراج بعض الكتب، دفعه الفضول إلى محاولة إخراج أحدها، نجحت المحاولة، كان كتابًا عتيقًا أصفر الصفحات، كانت الصفحات الأولى غير موجودة، أخذ يقرأ فيما تبقى من الكتاب، وجد أنه يروي قصة الإمام الحسين واستشهاده بالتفصيل، كان لا يعلم عنه الكثير، كان كل ما يعرفه أن والي العراق قتله في معركة عابرة على سبيل الخطأ رغم نهي يزيد بن معاوية عن ذلك، كان يعلم أن يزيد هذا لام الوالي وأنَّبه بعد أن علم بما حدث، كان يؤمن بأن تلك الأمور قد انتهت ولا يجوز الخوض فيها مثلما أخبره شيخه، إنها أمور لم يتورط هو فيها بسيفه فكيف يتورط فيها بلسانه؟
ربما لو كان في ظروف أخرى لطوَّح بالكتاب بعيدا ولما شغل نفسه به، ولكن شيئا ما دفعه لاستكمال القراءة، وهكذا ازدرد الكتاب كله في جلسة واحدة، لم يستطع أن يلبي دعوتهم إلى تناول الغذاء والعشاء، أكمل قراءة الكتاب على ضوء مصباح الجاز الخافت، شدته الأحداث الرهيبة والمأساة الفاجعة، لم يكن قد خطر بباله أبدًا أن شيئًا كهذا يمكن أن يكون قد حدث في فجر التاريخ الإسلامي، كان دمعه ينهمر حتى بلل صدر الجلباب الذي كان يرتديه، ما أن انتهى من قراءة الكتاب حتى انهمك في بكاء حار، تلقى صدمة هائلة مروعة لم يتحملها قلبه المرهف.
لم يدر بنفسه إلا في صباح اليوم التالي وهم يوقظونه لتناول الإفطار، لقد تغير كل شيء أمام ناظريه، تبدلت نظرته للأشياء، انهار عالمه القديم فجأة، أهكذا كان السلف المقدس؟ هل يمكن أن يكون ذلك هو ما حدث بالفعل في فجر التاريخ الإسلامي وعصره الذهبي وفردوسه المفقود؟ أهؤلاء من كان علينا أن نباهي بهم الأمم؟ وهل هذه الأمم تجهل ما عرفته الآن؟!
كان على والده أن يتحمل عبء استجواباته المدققة، لم يكن لدى الوالد المسكين إلا النزر اليسير من المعلومات التي لا تسمح له بالصمود أمام أسئلة ابنه الحادة الموجعة.
اصطحبه والده إلى المسجد لأداء صلاة المغرب، التقيا شيخ القرية، كان شيخا طيبا متصوفا، قصَّ عليه باختصار ما قرأه، قال له: "يا ولدي ارفق بنفسك، العن اليزيد ولا تزيد، إن والده هو الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان كاتب الوحي وخال المؤمنين والمشهور بالحلم".
لم يكن الولد ليقنع دون تلقي إجابات شافية، انتظر حتى يعود إلى القاهرة وهو على ثقة من أنه سيجد لدى شيخه الأثير حلا لتلك المعضلة، وهكذا ما إن عاد إلى القاهرة إلا وبادر بالذهاب إلى المسجد ليلتقي شيخه، ولكنه فوجئ بأن شيخه كان قد سافر هو الآخر إلى قريته في صعيد مصر، أسقط في يد وجدي، إنه لم يعد يطيق انتظارا، ولكن ما الذي يضطره إلى الانتظار، لماذا لا ينتهز فرصة إجازة الصيف للوصول بنفسه إلى جواب شاف بخصوص تلك المسألة؟
لحسن حظه أو لسوء حظه وجد كتبًا زهيدة الثمن من سلسلة أعلام العرب تتعرض لأحداث الفتنة الكبرى وكربلاء عن طريق دراسة بعض من كان متورطًا فيها، اشترى تلك الكتب والتهمها، كذلك وجد مكتبة عامة غير بعيدة عن منزله، شد الرحال إليها، وجد نفسه مضطرا لقراءة كل تاريخ القرون الإسلامية الأولى.
قد يتعجب الناس من إقدام غلام صغير في هذه المرحلة المبكرة من العمر على خوض تجربة هائلة كهذه، ولكن تلك هي الحقيقة، إن الناس قلَّما يدركون الإمكانات الهائلة لأبنائهم ولا يقدرونها حق قدرها، نعم استطاع هذا الولد أن يكوِّن في سنه الصغير هذا ثروة تاريخية هائلة يتفوق بها على أكثر الناس في عائلته وربما في بلده!! كان لديه أقوى حافز لكي يعرف الحقيقة وينجو بنفسه، على كل حال ساعده نبوغه المبكر وحافظته القوية وما كان يتسم به من المثابرة والإصرار.
استقر في ذهنه أن أحداث كربلاء وموقعة الحرة وغيرها كانت استمرارا لخط طويل وإصرار عنيد ومحاولات دؤوبة، لم يقع شيء من ذلك أبدًا بمحض الصدفة، إن من يستحقون اللعن كثيرون وليس يزيد وحده.
كانت كل الكتب التي قرأها تنتمي إلى نفس مذهبه السني العام، لم يكن في صباه المبكر هذا يعلم بوجود مذاهب إسلامية متعددة، لم تتح له فرصة قراءة أي كتب شيعية ولا معرفة أي شيء يُعتدّ به عنهم، لم يستطع اتهام نفسه بالتشيع، وسيضطر إلى السخرية المرة من كل من سيرميه بذلك يومًا ما، سيتأكد بذلك من ضحالة حججهم وخسة طباعهم، ولذلك أيضًا ظل مذهبه -الذي تلقاه عن شيخه- هو الدين عنده، كان ذلك أمرا مسلمًا به عنده في ذلك الحين، لم يكن يتصور أن توجد للدين نسخ متعددة، إن الدين عنده هو واحد لأن الحق لا يمكن أن يتعدد.
ولكن المشكلة أصبحت أخطر، إن كل تلك القراءات لم تقدم له جوابًا شافيا عن الأسئلة التي أثارها في ذهنه الكتاب الأصفر القديم ولكنها زلزلت أسس إيمانه المطلق بالدين كما عرفه، إذا كان السلف الذين كانوا قريبي عهد بالرسول قد بدلوا وانقلبوا على أعقابهم وضربوا رقاب بعضهم البعض واضطهدوا ذرية الرسول وحاولوا استئصالهم واقترفوا الكثير من الأعمال الإجرامية البشعة كما تشهد بذلك كتب التاريخ فما جدوى الدين إذًا؟ إن القتل وسفك الدماء ونهب الأموال والإفساد في الأرض واستعباد الناس جرائم كبرى، وهي لن تتحول لاختلاف نوعية من يقترفونها إلى فضائل أبدًا، تذكَّر كيف كان يسخر من أرباب الأوليمب المزعومين لسوء أخلاقهم وتردي أحوالهم، لابد أن ثمة خطأ ما، استبدت به الحيرة، وأضناه الألم، وأرقه طول التفكير.
كان مثله كمثل من كان يسير في طريقه باطمئنان تام حتى إنه أغلق عينيه أثناء السير؛ فالطريق مستقيم وآمن، ولكن فجأة لم يجد طريقًا تحت قدميه، إنه الآن يهوي من شاهق، استبد به الرعب، أغلق الباب على نفسه وأخذ يبكي حتى أوشك على الجنون، غاب عن وعيه فتتبعته فيه الكوابيس المرعبة.
إن كراهيته الشديدة للبغي والظلم جعلته يرفض رفضًا تاما كل من كان تجسيدا له مهما كان اعتقاد الآخرين فيه، كان يعتقد بفطرته أن الدين قد جاء لإعلاء شأن الحق والعدل والقيم الرفيعة والمبادئ والأخلاق الحسنة والمثل العليا، جاء لإتمام مكارم الأخلاق، ولقد أعلن لنفسه أيضًا، ولكن وهو يرتعد خوفًا أنه سيرفض أي دين أو مذهب يعطي الشرعية للبغي والظلم تحت أي مسمَّى من المسميات.
أخذ يقرأ التاريخ من جديد على هدي من موقفه هذا، استمد من معلوماته التي تأكدت مزيدًا من الشجاعة جعلته يقطع على نفسه بعزم وقوة عهدا بما كان قد أعلنه من قبل وهو يرتعد خوفا، قال بحسم: "إن أي دين يعطي الشرعية للبغي والظلم هو بالضرورة باطل".
علم أن شيخه أتي من أجازته وانتظمت دروسه، كان حماسه القديم قد تبدد وتوارى وراء سحب مظلمة كثيفة من الريبة والشك، وقر في نفسه أنه لن يجد لديه أية أجوبة عن أسئلته، على كل حال وجد أن من واجبه أن يقوم بزيارة إلى المسجد للقاء شيخه، لم يجد له في نفسه تلك الهيبة القديمة، وجه إليه الأسئلة التي كان قد كتبها كمن يؤدي عملاً لا مناص منه، كان على يقين من أنه ليس لدى شيخه ما يقدمه له أو يساعده به، تلقى إجابات تقليدية لم تثر في نفسه أكثر من السخرية والازدراء، حاول أن يجادل شيخه مذكرا إياه بقيم الإسلام وأموره الثابتة التي كان يؤمن بها هو، فوجئ به يقول له: يبدو أن لك ميولاً شيعية، احترس، إن الشيعة أشد كفرًا من اليهود والنصارى، رغم شجاعته المعهودة فإن أدبه القديم منعه من إبداء أي رد فعل، تمكن بصعوبة من أن يسيطر على ارتعاش شفتيه من شدة الغضب.
انصرف في أدب وقد تضاعفت شكوكه، أظلمت الدنيا أمام عينيه، إن شيخه –بكل بساطة- يدافع بشدة عن أئمة البغي والظلم، ولكن شيخه هذا كان بالنسبة له هو الدين، هل يمكن أن يكفر بالدين الذي أحبه وما زال يحبه؟ والذي زاد من فزعه سقوط شيخه الأخلاقي أمامه، فهو لم يعجز فقط عن تقديم إجابة مقنعة، بل قذفه بما يظن أنه تهمة!! وهي على أية حال تهمة كاذبة.
كان متسمًا بالصراحة والصدق، حاول أن يؤدي الصلوات لم يستطع، إنه لا يمكن أن يؤديها كعمل روتيني، هل يمكن أن يقطع كل صلة له بالماضي؟ إن ذلك هو المستحيل بعينه، ولكن هذا ما أصبح يتمناه ويوده.
كان يحب الذهاب إلى جبل المقطم خاصة عندما يريد أن يخلو بنفسه ويفكر بعمق، استقر في ذهنه أن الشيطان قد دبَّر وأحكم التدبير، إنه لم يكتف بأن دفعهم إلى اقتراف أبشع الجرائم، بل وجعلهم يصوغون دينهم بحيث أن كل من ستسول له نفسه الاحتجاج على ذلك سيجد نفسه متهما بالكفر، يا له من ظلم صارخ، دفعه الألم الممض والغضب العارم وشدة الإحساس بالقهر والظلم إلى الصراخ بأعلى صوته:
"ويل للظالم الفاجر الذي لا يريد للمظلوم أن يصرخ أو يتأوه بل لا يريد لأحد أن يتعاطف معه، وويل لمن أعانه على ظلمه، وويل لمن جعل ظلمه قانونًا أو حكمًا دينيا، وويل لقوم يتعرض أحدهم لظلم فادح فلا يجد له فيهم نصيرا"، أخذ يصرخ حتى بح صوته وغلبته دموعه، فلما استعاد رباطة جأشه قال بعد أن أقسم: لآخذن للمظلومين بثأرهم من الظالمين ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وفي سبيل ذلك لن أحفل بشيء من متاع الدنيا ولن أرهب الموت إذا أتى.
جاء يوم الجمعة، سمع الأذان، استبد به الحنين إلى المسجد الذي كان له بمثابة بيت أفضل من بيته، لم يستطع المقاومة كثيرا، توضأ وذهب إلى هناك، كان المسجد قد امتلأ، اضطر للصلاة في الطريق، فوجئ بأن خطبة شيخه تتناول أحداث الفتنة الكبرى وكربلاء، يبدو أن شيخه قد قرر الرد على مسمعٍ من أكبر قدر من الناس على كل ما أثاره هو من أسئلة معه، انتبه إليه بكل ما لديه من قدرة على التركيز، بعد أن عانى ما عاناه أصبح على استعداد تام لتبني أي رأي إذا كان مدعما ولو بأوهى برهان، كان كالغريق الذي يريد ان يتشبث بأي شيء.
فوجئ بأن شيخه يصف أحداث الفتنة وكأنه يتحدث عن مباراة رياضية شيقة، لقد اختلف (الصحابة)، فانقسموا حسب اجتهاد كل منهم إلى ثلاث فرق، فرقة بقيادة الإمام عليّ وفرقة بقيادة معاوية وفرقة فضلت أن تتفرج على المباراة وأن تنتظر النتيجة، وكل فرقة من هذه الفرق لها أجرها، وإن كانت على خطأ، أما المباراة أو المعركة الدامية التي نشأت وقُتِل فيها الألوف فقد سادتها الروح الرياضية ولم يخرج فيها أي فريق على قواعد اللعبة، إنه يتحدث عنهم وكأنهم أرباب الأوليمب المزعومين؛ من حقهم أن يتضاربوا بالسيوف كما يحلو لهم وعلى باقي البشر الفانين ألا يقحموا أنفسهم في أمورهم، ولا حرج علي أحد في أن ينحاز إلى أي فريق منهم.
أما مأساة كربلاء فقد كانت حدثا عابرا لسوء تصرف والي العراق عبيد الله بن زياد وقد أنَّبه (أمير المؤمنين) يزيد (في سره) وملَّص أذنيه (في الخيال) وحذره من أن يكرر فعلته والدليل على ذلك أنه أطلق يديه في العراق تماما ولم يعزله إلى أن هلك –أي يزيد- وهو –أي عبيد الله بن زياد- والٍ عليها.
أما مأساة المدينة والتي قتل فيها جيش يزيد البقية من الأنصار واستعبد من بقي من أهلها فالملوم فيها هم أهل المدينة، فكيف يخرجون على (أمير المؤمنين)؟ لا يجوز الخروج على من يحمل لقبًا كهذا حتى وإن كان في الحقيقة أمير الفجار الفاسقين المجرمين، إن القاعدة الشرعية تقول: "من قهرك بسيفه فقد وجبت عليك طاعته"، أما يزيد فقد بذل كل جهده حتى لا يضطر إلى التنكيل بهم، والدليل على ذلك أنه اعتبر موقعة الحرة أخذًا بثأر غزوة بدر التي قتل فيها الأنصار أسلافه من أئمة الكفر!!!
هذا بالإضافة إلى أن الأصل في أمير المؤمنين –كما قال شويخصٌ ما من مشايخ الشام- أن يكون عادلا، ومن قال بغير ذلك فعليه بالدليل!!
كان الشيخ يصرخ أحيانا ويخفض صوته أحيانا ويلون صوته أحيانا، بدا له شيخه القديم مهرجا خطيرا أو مدافعًا بالباطل عن الحزب اليزيدي وليس كرجل دين، إن بقايا الاحترام والإجلال القديم تتهاوى، لم يتمالك وجدي نفسه، أحس بأن كلمات شيخه سياط تهوي بقوة على ظهره، أخذت شفتاه ترتعدان ثم أخذ يضرب كفًا بكف فاسترعى انتباه من كانوا حوله، وقف يصرخ علَّ شيخه يسمعه، كيف تدافع عن قتلة أحفاد الرسول الذي تقف أنت على منبره؟ كيف تدافع عن قاتل الأنصار؟ وهل كان يزيد (صحابيا) لتدافع عنه؟ تعالت صيحات الناس، لولا أنه كان ولدًا صغيرا لفتكوا به، أخذ حذاءه وغادر المكان بسرعة.
أخذ صوت شيخه المدوي يلاحقه كطلقات رصاص، أدرك أنه لا نجاة له إلا بالفرار منه، ما إن أخذ صوت شيخه يتلاشى بابتعاده حتى تنفس الصعداء، أحس عندها بالنجاة والأمن، ألقى عن كاهله إصرا ووضع عن نفسه أغلالا، أخذ يستنشق عبير حرية لا عهد له بها، ظل هذا العبير بعد موقفه البطولي هذا حيًّا في ذهنه وذاكرته، كان من بعدُ يسترجعه في نشوة وكأنه يأخذ بذلك لكل المظلومين بثأرهم من الظالمين، كان يستمد منه الدافع واليقين لاستمرار مسيرته، صارت الحرية من أثمن القيم عنده، لأنطلقنَّ في كل مكان ولأستنشقنَّ عبير كل زهرة ولأسلكنَّ كل طريق غير وجل ولا هياب، لا لن أُستعبَد للأكاذيب والأباطيل بعد اليوم.
رغم كل ما حدث فإن حبه القديم لله لم يتأثر كما ظل معظمًا لقدر رسوله، ولكن هل يمكن أن يكون دين الرسول هكذا؟ هل يمكن أن يسمح بقتل أحفاده ظلما وأن يبرر ذلك؟ هل يمكن أن يكون الإمام الحسين قد قُتِل بسيف جده كما قال شويخ آخر من الشام؟ وهل نزل الدين للدفاع عن القتلة والظالمين والمفسدين في الأرض أم لإقامة الحق والعدل والحفاظ على حقوق الإنسان وكرامته؟ لماذا يكون عليه طبقا لهذا الدين أن يدافع عن أمثال هؤلاء وإلا لعُدَّ خارجا عنه؟
هل يمكن اعتبار اقتراف الجرائم النكراء والخروج على أئمة الهدى والإفساد في الأرض مجرد اجتهاد يثاب فاعله لمجرد أن هذا الفاعل من (الصحابة) أو السلف؟ هل يمكن أن يوجد أي قانون يسمح لطائفةٍ ما بأن تعلو عليه؟ هل يمكن أن يستوي أئمة الهدى والحق من ناحية وأئمة الضلال والبغي من ناحية أخرى؟ هل يمكن أن يسير الإنسان في طريقين متناقضين في نفس الوقت؟ إن الفطرة السوية تأبى أن تتقبل قانونا بشريا لا يسوي بين الناس ويعطي مزايا مجانية لطائفة على حساب الطوائف الأخرى، والقانون الإلهي هو بالتأكيد أسمى من كل القوانين البشرية، لا يمكن أن يكون الدين الذي يمثله شيخه هو دين الحق، أين دين الحق؟ أين دين الحق؟ كان هذا هو السؤال الملح الذي كان يكرره لنفسه كلما أتيحت له فرصة الانفراد بها.
لم تمكنه ثقافته في ذلك الحين من الحصول على جواب يطمئن له قلبه، انطوى صدره على جرح عميق وألم دفين، شغل نفسه بأيِّ أمر آخر إلا الدين.
كانت غريزة حب البقاء قد بدأت تعمل عملها، لماذا يتعين عليَّ أن أجد أجوبة لكل هذه الأسئلة المطروحة، وهل ستتوقف حركة الكون إذا لم نعثر على تلك الأجوبة، لنطوِّح بها جانبا، ها هم الناس من حولي يعيشون حياتهم ولا يشغلون بالهم إلا بما يتعلق مباشرة بأمور حياتهم، لماذا لا أكون مثلهم؟
ولكن قراءاته في التاريخ للحصول على أجوبة لأسئلته جعلته مولعًا به وخاصة بالتاريخ الإسلامي وتاريخ بلده وبكل ما يتعلق بها، زاد ذلك من حبه لمصر الذي تحول على مدى الأيام إلى حب جنوني، رغم كل التغيرات العاصفة التي مرت به على مدى حياته من بعد فإن هذا الحب بقي راسخا ثابتا، ترعرع في خياله حلم اسمه مصر الحرة القوية، أصبح يحيا ليحققه.
التحق بالمدرسة الثانوية، انفتح أمامه عالم جديد صاخب، يختلف تماما عما ألفه من قبل، سرعان ما ظهر تفوقه الدراسي والثقافي على زملائه وأقرءانه، كان هو أيضًا قد تبدل، كان يبدو كغلام مشاغب صاخب، كان يجد سعادته في التحرر من كل القيود التي فرضها قديما على نفسه، ولكنه كان يحاول أن يخفي بذلك جرحا عميقا وألما مضنيا.
استلفت تفوقه الحاسم في الأمور الدينية مدرس الدين في المدرسة، كانت حصة الدين هي متنفس الطلبة والوسيلة المتاحة للسؤال في كل شيء وعن كل شيء، كان هذا المدرس يتصف بالسماحة وسعة الصدر، لم يكن يغضب من أي سؤال مهما كانت وقاحة السؤال أو السائل.
خطرت ببال وجدي فكرة؛ لماذا لا يصارح الأستاذ بحقيقة شكوكه؟ إنه لم يكن يتوقع أن يجد لديه أي جواب شافٍ لأسئلته القديمة التي لم يجد لدى شيخه القديم أي جواب لها يطمئن به قلبه، ولكن لا بأس من المحاولة، قرر أن يقدم على هذه التجربة، ولكن غلبه الحياء والتردد، هذا فضلاً عن أن حياة الفوضى والحرية واللامسئولية قد راقت له، إنه يخشى على حريته بقدر ما يخشى من تلقي صدمة جديدة.
ولكنه فوجئ بأن المبادرة قد أتت من جانب الأستاذ نفسه، فذات مرة أخذ المدرس يسرد عليهم قصة الفتنة الكبرى ثم يتبعها بسرد قصة استشهاد الإمام الحسين في كربلاء بتأثر شديد، في حين أن كل الطلبة أخذوا يتابعون القصة بحياد بارد فإنها نكأت عند وجدي جرحا قديما، تأثر تأثرًا لا يخفى وأخذ يغالب دموعه، رمقه الأستاذ، أحس هو بحرج بالغ، أخذه شعور من افتضح أمره وانكشف سره، لم يعد ثمة مناص من المصارحة.
هناك في مسجد المدرسة قص على الأستاذ قصته كاملة، فوجئ بالأستاذ يقول له: لا تخش شيئا، أنت مؤمن، إنك لم تكفر بالدين ولكنك كفرت بالمذهب السلفي الأثري، أخذت منه الدهشة كل مأخذ، لأول مرة يخطر بباله أن المذهب السلفي الذي يعرفه ليس هو الدين.
سأل الأستاذ وقد استبدت به الحيرة: ولكن ما هو الدين؟ علم من أستاذه أنه توجد مذاهب عقائدية متعددة وأن عقيدة الأزهر الرسمية هي العقيدة الأشعرية، أخذ أستاذه يحاول أن يشرح له أصول هذا المذهب ويبالغ في تبسيطه، لم يستطع هو أن يفقه كثيرا مما ذكره أستاذه، حدثه أيضا عن المذهب الشيعي وعقيدته الأقرب إلى عقيدة المعتزلة، تذكر كيف أن شيخه السلفي القديم كان يتحدث عن أتباعه كطائفة ضالة كافرة، وها هو الآن أستاذه أو شيخه الجديد يتحدث عنه وكأنه مذهب من مذاهب المسلمين.
كان يومًا فارقا في حياته، لم يستطع أن يتحمل تلقي المزيد من المعلومات، لم يتطرق الحديث إلى الأمور التاريخية، لم يفقه إلا قليلا الفروق بين المذاهب المذكورة، ولكن الأمر الآن يبدو واسعا ومعقولا، حسبه ذلك الآن، لقد عاد إليه إيمانه القديم وتيقظ في قلبه الحنين، يكفيه هذا الآن، بدأ من جديد يقيم الصلوات ولكن في البيت وليس في المسجد، أخذ حماسه في التعبد يشتد، أخذ يذكر الله بحماس في كل أحواله، بدا وكأنه يريد تعويض كل ما فاته.
أخذت موجات من الحنين إلى الله تنتابه، حُبِّب إليه الذهاب إلى شاطئ النيل والمناطق الصحراوية، انتظم تردده على جبل المقطم وخاصة البقعة التي شهدت تعهده القديم، كان يخلو هناك لساعات طويلة بنفسه، تيقظ عنده شوق قديم وحلو إلى ربه، أخذ يتخيل نفسه متعبدا له في إحدى المغارات الموجودة هناك، أخذ يفكر جديًّا في ذلك، لم يكن يربطه بدنيا الناس الكثير، يبدو أنه وُلد هكذا زاهدا في متاعها الفاني.
عاد إلى القرءان الذي عاش دائما محبا له، أخذ يقرأُه كما لم يقرأه من قبل، حرك كل مشاعره وهز كل كيانه حرص الله المتكرر على نفي الظلم عن نفسه بكل الأساليب اللغوية الممكنة، هذا رغم أنه ليس مسئولا أمام أحد، قرأ الآيات:
{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}ق29، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }آل عمران182، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}فصلت46، {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }البقرة281، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}النساء49، {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }آل عمران25، {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }الأنعام160، {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }يونس54، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }النحل111، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}الكهف49، {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }الجاثية22، {تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ }آل عمران108.
فوجئ بالتأكيد المتكرر في القرءان بأن الرسول قد أُرسل بالهدى ودين الحق وبأن أقوى الأوامر الواردة فيه هي الأوامر بإقامة العدل والقيام بالقسط، وأن المقصد من إرسال الرسل وإنزال الكتاب والبينات معهم هو أن يقوم الناس بالقسط وأن الخطيئة الكبرى إنما هي الظلم.
رأى القرءان يلعن الظالمين ويتوعد من يركن إليهم، وجده يلزم الناس بالانتصار إذا أصابهم البغي أو الظلم، رأى أن فرعون قد ورد ذكره أكثر من معظم الناس لتحذيرهم من الاستبداد والطغيان وأن من أسباب هلاكه أنه أفسد في الأرض وذبح أبناء بني إسرائيل، فهل من ذبح أبناء الرسول وأفسد في الأرض من الأمويين والعباسيين أفضل منه؟ وهل يستحقون أن يبجلوا في حياتهم وأن يتخذهم الناس أربابا بعد مماتهم؟ كلا كلا، هذا هو قولي في الأمر ولن أحيد عنه أبدا، لن أضحي بالدين في سبيل أناس هم طبقًا لما قرره القرءان ظالمون ملعونون ولعلهم الآن يصلون الجحيم، أما من يتخذونهم أربابا ويريدون العودة إلى عصورهم فإنما هم كالأنعام بل هم أضل فهم لا يستحقون اهتماما ولا حتى شفقة.
لقد أدرك بعد قراءة آيات الكتاب العزيز أن الظلم هو الإثم الأعظم والذنب الأكبر، وهو الجذع الرئيس للشجرة الملعونة، والإنسان ملزم باجتناب أن يعمل بمقتضى هذه الصفة؛ أي على الإنسان ألا يظلم وألا يبغي وألا يجور، وكل الأفعال التي يقتضيها اتصاف الإنسان بصفة الظلم هي من كبائر الإثم أو على الأقل من الآثام ويجب اجتنابها، علم أن الظلم هو أكبر الآثام، والظالم يُعاقب لتوِّه؛ ذلك لأن الله سريع الحساب، وهذا العقاب الفوري يتم على المستوى الجوهري.
قرأ آيات القرءان التي تبين أن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو الملك الحق والحق المبين، علم أن الله يحكم بالحق ويقضي بالحق ويخلق بالحق، تعجَّب من موقف الناس من ربهم، أثار غضبه كيف أنهم يحاولون أن يحمِّلوه مسئولية أخطائهم وأخطاء أسلافهم، أدرك أنهم لما عزَّ عليهم انتقاد جرائم أسلافهم المعبودين فقد حاولوا أن يلصقوها برب العالمين، قال في نفسه قُتِل الإنسان ما أظلمه وما أكفره.
أخذ يفكر في أمر نفسه، لكم قرأ آيات القرءان التي فيها ما يريد وما تهفو إليه نفسه أيام تدينه الأولى دون أن يتدبرها التدبر اللازم، لماذا شُغل عنها؟ ما الذي كان يحول بينه وبين إدراك معانيها البيِّنة الواضحة؟ أدرك بكل جلاء أن المذهب الذي كان يظن أنه الدين هو الذي كان يحول بينه وبين الدين!!
ذهب إلى جبل المقطم حيث صرخ أول مرة، أخذ يتلو هناك الآيات التي ينفي فيها الله عن نفسه الظلم، كان مما قرأه:
{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرا عَظِيماً }النساء40، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }يونس44، أخذ يعتذر لربه ويستغفره، عبرت دموعه ومشاعر قلبه عما عجز لسانه عن قوله، أخذ يتلو الآيات: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}النور25، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}المؤمنون116، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}لقمان30، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}الحجر85، {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }النحل3، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}الأنبياء18، {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ}العنكبوت44، {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}سبأ26، {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}غافر20، {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}الشورى17، {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} الجاثية22.
ظل يردد هذه الآيات حتى انبثق الفرح من قلبه وانتعشت به نفسه وغمرت السكينة والطمأنينة كيانه كله، أعلن بكل ما في كيانه من قوةٍ إيمانَه المطلق بالله كما تحدث عن نفسه في كتابه وليس كما تصوره أتباع المذاهب، أعلن أيضا ولاءه التام له، عقد العزم على ألا يتخذ وليا من دونه، عاهده على ألا يتخذ المضلين أو المشركين ولا الكافرين عضدا.
شيئًا فشيئا أخذ الحنين إلى المساجد يجتذبه، لم يذهب إلى مسجده القديم، كان يتردد على المساجد الأثرية العتيقة، أخذ يصلي في مسجد الخازندار وهو من أقدم مساجد شبرا، استلفت نظره وجود شيخ يبيع الكتب الدينية في المسجد، ذهب لينظر في هذه الكتب، وقع نظره على كتاب المنقذ من الضلال للإمام الغزالي، أخذه ليتفحصه، اشتدت دهشته وهو يطالع ما هو مدوَّن فيه، يبدو أنه يتضمن حلا ناجعا لمشكلته، لحسن حظه وجد ما معه من نقود قليلة يكفي بالكاد ليشتري الكتاب، أخذه وطار به إلى منزله، انكب عليه يقرأُه، لم يستطع أن ينام قبل أن يكمله، كان خلاصة ما استنتجه من قراءته أن التصوف هو الحل الوحيد لمشكلته، لقد أدرك أن نفسه كانت تواقة بالفعل إلى شيءٍ مثل التصوف، كل ما في الأمر أنه لم يكن يعرف لما يتوق إليه اسما.
أصبح شغله الشاغل كيف يتصوف، وإلى أن تتاح له الممارسة العملية فقد قرر أن يبدأ بالدراسة النظرية، كان يشتري بقروشه الزهيدة أي كتاب يصادفه له علاقة ما بالتصوف، كان يحاول الاستفادة القصوى بما يتمكن من الحصول عليه من الكتب، علم أنه لابد له من الالتحاق بإحدى طرق التصوف، حاول أن يفعل ذلك، ولكنه لم يستطع أن يتصور نفسه وهو يرقص في حلقة ذكر أو يطوف حول ضريح أو يُستعبد لشيخ، كما لم يستسغ كل ما اعتبره إحداثا في الدين، ما زالت كلمات شيخه القديم عن البدع ومحدثات الأمور تدوي في أذنيه وتعمل عملها في نفسه، لم يكن لأي شيء أن يهز التوحيد الخالص الراسخ في قلبه.
أخذ يتساءل أما من سبيلٍ إلى تصوف خال من المحدثات، أو هل من سبيل شرعي يصل بالإنسان إلى ما يتحدث عنه التصوف؟ سيأخذ على عاتقه يوما ما أن يحاول استخلاص هذا السبيل.
ولكنه في سنه المبكر هذا حاول، ولكن دون جدوى، الاهتداء إلى سبيل مرتضى وآمن، لم يكن يعرف للتصوف بديلاً، حاول من جديد أن يتصوف ولكن بالالتحاق بطريقة أقل تمسكا بالمحدثات، لكنه وجد أن اتجاهه التوحيدي من الرسوخ بحيث وجد كل ذرات جسمه ترفض التخلي عنه، ولكن لماذا يتوجب عليَّ التخلي عنه؟ لقد قرأت التاريخ الإسلامي جيدا على هدي من كتاب الله تعالى، من الواضح أن المذهب الذي يزعم التمسك بهدي السلف إنما يتبع الخط الأموي العباسي، إن حالهم يصرح بأفصح وأجلى بيان أنهم اختاروا معاوية ويزيد وابن حنبل وابن تيمية والقاضي بن العربي ومن كان على شاكلتهم ليتبعوهم، وحيث أنه لم يكن يميل أبدًا لأي واحد من هؤلاء فليختر من السلف من هم أفضل منهم ليتبعهم، لماذا لا يتبع الإمام علي وابن مسعود وعمار بن ياسر وأبا ذر وسلمان والمقداد وزعماء الأنصار وكلهم من أكابر السلف؟ لماذا أيضاً لا يتبع أعلام المتكلمين الأشاعرة وأكابر المتصوفة؟ لماذا لا يتبع من هو بلا جدال خير وأفضل؟ وما الذي يمكن أن يحول بينه وبين أن يلتزم بالأوامر القرءانية فيذكر الله ذكرا كثيرا ويسبح بحمده بكرة وأصيلا؟ لماذا لا يتدبر القرءان؟ لماذا لا ينظر في ملكوت السماوات والأرض؟ ولماذا يتعيَّن عليه أن يؤمن بما صاغه الناس مما يُسمَّى بالعقيدة والتي ينسبونها إلى من كتبها تارة أو إلى مكانٍ ما تارة أخرى؟ لماذا لا يؤمن بمحض الآيات كمسلمات وبيِّنات؟
إنه يعلم الآن جيدا أن الإسلام هو دين الحق والعدل، وأنه ينهي عن الظلم والبغي والجور، فكيف يلزمه الناس بالإيمان بأئمة البغي والظلم، أم كيف يتخذونهم أربابا بعد أن لعن القرءان الكريم الظالمين، وهو يعلم أن الإسلام يحض على استعمال العقل والتدبر والتفكر في آيات الله فكيف يتبع من ينظرون إلى العقل بريبة وازدراء؟ أخذ على عاتقه في سنه المبكرة هذه أن يؤسس لمذهب سيختار له في مرحلة من المراحل اسم السلفية المستنيرة، ويعني بها اتباع فقه من صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولم يبدلوا تبديلا، ولكنه في مرحلة أكثر نضجا سيفضل أن يعتبره محض الإسلام الغني باسمه الرسمي عن أي اسم آخر.
وفجأة حدث ما شغله عن استكمال مشروعه وجذبه إلى الاهتمام بالشأن العام، لقد أثيرت قضية الإخوان وتم القبض على مجموعة كبيرة منهم، رماهم النظام بكل ما في جعبته من اتهامات، وسلط عليهم كتائب إعلامه الشرسة، رأي صورهم في التليفزيون، رأي بشفافيته على وجوههم هول ما تعرضوا له من قهر وبطش وتعذيب، تابع المحاكمات التي انتهت بإعدام كبار رموزهم، رأى نفسه يتعاطف معهم ويود لو استكمل مسيرتهم، دعاه ذلك إلى الاهتمام بالسياسة، ولكن لم يكن لهذا الحدث –رغم فداحته- أن يزعزع من قناعاته الأساسية، لقد تعاطف معهم لكراهيته الشديدة للقهر والظلم والبغي وليس لاقتناعه بمبادئهم ومنهجهم، كان يلمح فيه نفس منهج الخوارج الذين كان يعتبرهم من الكوارث التي ابتليه بها الأمة ولم ينتفع بجهودهم إلا أهل الباطل.
كان من قبل –أثناء أزمته الروحانية- قد قرأ بتعمق تاريخ مصر واكتشف في نفسه حبا لبلده وتعصبا لها كان في غفلة عنه، كان يعتقد أن مصر تحث الخطى نحو التقدم وأنها تملك الآن حريتها وإرادتها، رأى أن سر قوة مصر هو في جيشها الذي كان أول الجيوش النظامية في العالم، كان حريصا على حضور العروض العسكرية ليستمتع برؤية الأسلحة الحديثة التي تزيد من قوة هذا الجيش، لم يكن يريد لأي شيء أن يهدد مكانة الجيش ولا قوته، إن من مزايا الثورة عنده أن مكنَّت مصر من بناء جيش قوي.
وفجأة اندلعت أزمة الشرق الأوسط وتتابعت الأحداث بسرعة عجيبة، ثم وقعت الكارثة الكبرى والداهية العظمى.
روعته الهزيمة الثقيلة التي أصيب بها بلده، اعتبر ذلك جزاءً وفاقًا لما تعرض له الإخوان من ظلم فادح وتنكيل ولما يعاني منه الناس من الظلم والاستبداد وفقدان الحرية، كان يرى دائما أنه لا أمل في بناء أمة قوية متمكنة بدون إطلاق وتفجير طاقات الناس، أما الشرط اللازم لذلك فهو الحرية!!
ولكن اشتد ألمه لانهيار جيش بلاده، تلقى صدمة نفسية مروعة، عانى آلاما نفسية حادة، هو الآن يتأهب لدخول امتحان الثانوية، رغم ما مرّ به نجح بمجموع مكنه من الالتحاق بكلية العلوم، كان يود أن يكون ضابطا ليتمكن من الثأر لبلده، ولكنه لم يكن أبدًا مستعدا للحياة العسكرية التي علم عنها الكثير من الطلبة ومن أقاربه، لقد ظل طوال عمره عاشقًا للحرية، لم يكن لديه أدنى استعداد للتخلي عنها.
مكَّنه الالتحاق بالجامعة من توسيع آفاقه وخبراته الاجتماعية، شارك في كل المظاهرات التي تلت الهزيمة والتي كانت لحث القيادة السياسية على الدخول في الحرب والثأر لمصر، كانت تلك المظاهرات المجال الذي يمارس فيه حريته إلى المدى الأقصى.
ثم عبر الجيش المصري القناة في أكتوبر 73 وأحرز انتصارات باهرة، امتلأت نفسه بفرح غامر، كان لهذا الفرح مذاق لا يُنسى، أخذ يستمتع بمتابعة انتصارات الجيش المصري الذي عاش دائما محبًّا له، تمنى أن ينتهز الجيش فرصة الانتصار الهائل وانشغال إسرائيل بالجبهة السورية، ولكن شيئا لم يحدث، إلى أن قيل إن الساداتي سيلقي خطبة أثناء المعركة.
استمع إلى خطاب الساداتي الذي لم يثق أبدا به فأوجس في نفسه خيفة، بدأ مسار المعركة في التحول، عبر اليهود القناة، ضربوا وحدات الدفاع الجوي من الخلف، حاصروا السويس، تم وقف إطلاق النار، بدأت تصرفات الساداتي المريبة تقلقه، بدا له وكأنه خاض المعركة ليتمكن من مصافحة أخلص أصدقاء إسرائيل وألد أعداء مصر؛ كيسنجر.
حصل على بكالوريوس العلوم، لم يتمكن من الالتحاق بالقوات المسلحة لأسباب طبية، تم تكليفه للعمل مدرسا.
بدأ تشككه في الساداتي يستفحل، أثار استغرابه أنه كان يقيم أبهج الاحتفالات بنصر أكتوبر بينما يتصرف مع الغرب كمن تلقى هزيمة تامة، قام الساداتي بزيارة إسرائيل ووقع اتفاقية كامب ديفيد، تجاوز كل ذلك قدرته على الاحتمال، قرر أنه آن الأوان لعمل شيء ما، كانت الساحة المصرية ملأى بكافة التنظيمات المحسوبة على الإسلام، انضم إلى أحد هذه التنظيمات.
اشتد نشاط المنظمات المعارضة للسادات، تم رصده بواسطة الجهاز الرهيب المسمى بأمن الدولة، ما إن كشر الساداتي عن أنيابه إلا وفوجئت أسرته بقوة مدججة بالسلاح تقتحم منزلهم وتروعهم وتقلب أثاث المنزل رأسا على عقب ثم تقتاده إلى ما كان يُسمَّى بوراء الشمس، ذاق هناك ألوانا من العذاب، أُفرج عنه بعد مدة دون أن يدري سببا محددا لاعتقاله ولا سببًا للإفراج عنه.
عصفت الفتن بالوطن، فشلت سياسة الانفتاح في تحقيق أي رخاء للناس، ثم اغتيل الساداتي بعد أن روَّع الأمة بالقبض على حشد هائل من المعارضين من شتى الاتجاهات، كانت محاولة ساداتية يائسة لإسكات مصر، واقتحم أمن الدولة من جديد بيت أسرته واقتادوه من جديد إلى المعتقل حيث تلقى قدرا هائلا من التعذيب أنساه عذاب أيام الساداتي، أصابه التعذيب هذه المرة بمرض مزمن.
فوجئ بوجود معاذ معه، كان أحد زملائه في الكلية وممن انتابتهم النوبة الدينية التي ازدهرت في أوائل عهد السادات وتطرفوا في تدينهم أو تمسلفوا، توطدت أواصر الصداقة بينهما.
أُفرج عنه بعد أن حوكم قتلة الساداتي، قرر أن يبحث عن عمل في الخليج، كان قد قرر ألا يحمِّل أسرته من الأمر ما لا تطيق، بسهولة وجد فرصته، لحسن حظه لم يجد أنه ممنوع من السفر.
أمضي في الخليج بضع سنين، تأصلت هناك اتجاهاته السلفية ولكن على طريقته الخاصة، ساعده عمله هناك على تأصيل اتجاهه العقائدي البعيد عن تعقيدات المذاهب الكلامية التي لم يستسغها أبدا، أخذ يحاول أن يحقق حلمه بتأسيس السلفية المستنيرة، أخذ يحاول تعميق معرفته بالمذهب السلفي الوهابي ليتمكن من إحكام صياغة مذهبه، كانت طريقته أن يطرح مع المهتمين بالشأن الديني بعض الموضوعات للمناقشة ثم يسمع آراءهم ويحاول أن يحللها أو يفندها أمامهم، يبدو أنه تمادى في ذلك أكثر مما ينبغي إذ سرعان ما وجد نفسه مأمورا بترك عمله والرحيل عن المملكة.
لم يندم على ذلك أبدا، كان قد كون ثروة معقولة مكنته من تأجير شقة مناسبة في شبرا أيضا، تزوج بعد ذلك من فتاة طيبة ذات أصول ريفية مثله، لم يكن لديه من المال ما يمكنه من تأسيس مشروع خاص، أصبح يعتمد على العمل العشوائي هنا وهناك.
عاد من جديد إلى مشروعه الديني وقد أصبح مزوَّدا بخبرات جديدة، أصبح القرءان هو رفيقه الدائم، راجع نفسه فيما يتعلق بموقفه من السلف، لماذا يفضِّل بعضهم على البعض الآخر؟ كانت الإجابة هي لأنه رآهم أشد تمسكا بالهدي الإسلامي أو بالأحرى القرءاني، لماذا إذًا لا يأخذ هداه من القرءان مباشرة؟ كان قد عرف من قبل أن مذهبه القديم هو الذي كان يحول بينه وبين الدين، لن يسمح من بعد لأي نسخة منقحة من مذهبه القديم أو لأي مذهب آخر أن يحول بينه وبين كتاب الدين، عاد إلى قراءة القرءان على هدي من هذه الفكرة.
قرأ مطلع سورة الأعراف:
{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ }الأنعام106، {المص{1} كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ{2} اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ{3} وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ{4} فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ{5}} الأعراف
استبان له الأمر وعرف طريقه، إذا كان الرسول نفسه مأمورا باتباع ما أنزل إليه وهو القرءان فكيف يتبع ما هو من دونه خاصة وأن ثمة نهيا صريحا عن ذلك؟ أعلن عندها إسلامه من جديد وبرئ من كل ما يخالفه!!
كان التوتر قد تصاعد في مصر في عصر مبارك وأصبح كل من له انتماء إسلامي هدفًا مستباحا لأمن دولة مبارك، روَّعه أن سمع أنهم هاجموا من جديد منزل أسرته وروَّعوهم، ودَّع زوجته وذهب ليسلم نفسه وليدعوهم إلى زيارته كلما أرادوا في منزله الجديد، استضافوه عندهم لبعض الوقت دون أية مناسبة وأذاقوه ألوانا من كرمهم المعهود.
يبدو أن السجون قد ضاقت بنازليها فقرروا الإفراج عن أقلهم خطرا، وهكذا عادت إليه حريته، ولكن كان عليه أن يكافح كفاحا مريرا ليدرأ عن نفسه وعن زوجته خطر الجوع أو مذلة الاستدانة من الناس.
حزَّ في نفسه أن يفقد حريته وأن تمتهن كرامته حينًا بعد آخر وبكل استخفاف دون أي داع، أدرك أن أزمة هذا النظام هي في انهيار قيمه وانطوائه على كفر بالدين واستخفاف بإنجازات الحضارة الإنسانية، إنه نظام كافر ظالم فاسق جاهل أحمق همجي متخلف، إنه إن استمر هذا النظام لن ينتج إلا فاجرا كفارا، أقسم أن يبذل كل ما هو في وسعه لإسقاط هذا النظام، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟
لقد أدرك أن الأمر ليس سهلا، إن نظام التسلط الفاسد هو نتيجة طبيعية ومنطقية لشعب متخلف جاهل فاسق لا يتمسك بمنظومة قيم سامية، وبالطبع سيعمل النظام الفاسد على تكريس الأوضاع التي أدت إلى ظهوره فيزداد تخلف الشعب وينتج نظاما أكثر فسادا، فالأمر أشبه بحلقة تغذية خلفية موجبة: (Positive Feedback Loop)، ولا يوجد نمط ثابت لكيفية الخروج من أسر تلك الحلقة، ولكن هذا الخروج هو الحل، ولا حل غيره، وأخطر ما يمكن أن يقع فيه الصفوة تملق العامة ومغازلة جهلهم وتخلفهم، عندها سيخسر الجميع.
وكذلك –بتدبره آيات القرءان- أدرك أن الفساد ليس هو الخطيئة الوحيدة، فمن الخطايا الكبرى الطغيان والظلم والخيانة والشرك والكفر والكذب والكبر والنفاق والجهل والتخلف والحقد والكراهية والبغضاء والانحلال والجبن والغش والتدليس والتجني على الناس بالباطل ونكران الجميل والتطاول على الشرفاء وعدم إتقان العمل وإهدار الوقت والموارد وتأجيج الفتن، وسوء معاملة الضعفاء مثل اليتيم والمسكين، والإفساد في الأرض، ومن الإفساد في الأرض قطع الطريق وتعطيل مصالح الناس، ومن الشرك توثين الأشخاص والأهواء والآراء الشخصية ومن الكفر تعطيل العمل بالآيات القرءانية تحت أي زعم من المزاعم.
قرأ ذات مرة الآية:
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} يوسف106،
أخذه العجب؛ إن المشركين من بين من آمن هم الأغلبية، أي أن المبرئين من الشرك أقلية، كيف يكون ذلك؟ أدرك أن المبرأ من الشرك هو من آمن بأنه لا إله إلا الله وعاش وفق مقتضيات ذلك، أدرك أيضا أن من كان كذلك هو الحر الحقيقي؛ أي من ظفر بالحرية الحقيقية التي كان يحلم بها، اجتاح كيانه فرحة لا نظير لها؛ فرحة حلو مذاقها مسكر عطرها.
أدرك إذًا أن كل من لم يكن مسلمًا حقا هو عابد وثن، فكل أتباع شتى المذاهب التي حلت محل الإسلام منذ الانقلاب الأموي المشئوم قد ضلوا عن الحق وحادوا عن الطريق وتنكبوا الصراط المستقيم واتخذوا أئمتهم أرباباً من دون الله، ولن يصلح حال المسلمين إلا بالتوحيد النقي الخالص، أدرك أيضاً أن الأفكار ذاتها يمكن أن تتحول أيضاً إلى أصنام، وهي أخطر الأوثان.
أيقن إذاً بإفلاس شتى المذاهب الموجودة على الساحة وعجزها عن أن تحيي الدين في نفوس المسلمين، كان من قبل يطمع أن يجد الوقت والإمكانات ليصوغ مذهبه السلفي المستنير فرأى أنه لا نجاة إلا بالتخلص من كافة المذاهب والإيمان بالإسلام كما هو ماثل في القرءان، إن اتِّباع الإسلام دون قيد أو شرط هو السبيل لكي يخرج الناس من حلقات الفشل والإحباط المفرغة والحابسة، وبسبب كل ذلك أيقن بإفلاس وعدم جدوى كل الأساليب التقليدية التي كان يأخذ بها المتأسلمون لتغيير نظام الحكم، لابد من البحث عن سبل جديدة.
كان قد أنجب أول أبنائه، يبدو أن قدومه كان سعدا عليه، تركه أمن الدولة وشأنه، رغم عمله العشوائي هنا وهناك فقد ضمن دخلاً شهريا معقولا، سرعان ما أنجب ابنه الثاني، ذاق مع أسرته في ثوبها الجديد ألوانا من السعادة لا عهد له بها، ولكنه سرعان ما شغل عنهم من جديد باهتماماته الخاصة، على كل حال يبدو أن ولديه كانا مثله في الهدوء الظاهري على الأقل فلم يرهقاه من أمرهما عسرا.
رغم أن تخصصه الأصلي هو الفيزياء فإنه كان مولعا بالكومبيوتر، اكتسب ما يلزم من خبرات عملية ونظرية للتعامل مع هذا الجهاز العجيب، لم يكن لديه من الإمكانات المادية ما يمكنه من طرح آرائه للنقاش العام، بدأ يحاول طرحها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، تلقى قسطا بسيطا من التقدير والمديح، ولكنه تلقى قدرا هائلا من التجريح والشتائم والاتهامات، كان السلفية أول من شنوا عليه أقسى الحملات، شملت قوائم الشتائم والاتهامات ما لم يخطر بباله، آلمه ذلك، أوشك أن يكفّ عن نشر آرائه، ولكنه قطع بأن المذهب الذي ينتج عنه مثل تلك الكائنات الخطرة البريئة من مكارم الأخلاق الممعنة في الشر الفاجرة في الخصومة لا يمكن أن يكون صحيحا.
عن طريق مواقع التواصل عرف محاولات حشد الناس للتظاهر ضد نظام مبارك، لم ينس أبدًا مأساته مع هذا النظام، حركته شجاعة المشاركين في تلك الحملات، هل لا يعلمون مدى ضراوة ووحشية نظام مبارك؟ ربما يعلمون، ولكن هل ذاقوا شيئا من ذلك؟ على كل حال هم يستحقون كل تشجيع.
لم يكن بالطبع يؤمن بالاتجاه السلفي الذي يلزم الناس بطاعة الحكام وإن جلدوا الظهور ونهبوا الأموال طالما لم يعطلوا إقامة الصلاة، كان يتميز غيظا كلما قرأ عبارات مثل: "من قهرك بسيفه وجبت عليك طاعته"، كان يؤمن بضرورة التصدي لهم بكل ما هو متاح من قوة، كان يعتبر أمثال هؤلاء أعداءً لله وللأمة بل ولأنفسهم، لا يمكن أن يكون من مقاصد دين الحق والعدل إلزام الناس بالخضوع المطلق لأهل البغي والجور والظلم والاستبداد والطغيان، لقد كانت كراهيته الفطرية لأمثال هذه الصفات هي التي قادته إلى كراهية كل من كانوا يجسدونها وإن كانوا من السلف المقدس الذين يتخذهم الناس أربابًا من دون الله وإن لم يشعروا، بل قادته إلى الخروج على المذهب الذي يقدسهم والذي كان يظن أنه الدين.
كلا لا يمكن أن يكون من مقاصد الدين توطين الناس على الخضوع المطلق للمفسدين في الأرض ولا إيقاف عجلة التطور الطبيعي ولا القضاء على آمال الناس في حياة أفضل تقدس الحق والعدل والحرية، ولا يمكن أن يكون من مقاصد الدين تقسيم الناس إلى طبقتين؛ طبقة تعلو فوق كل قانون حتى وإن كان قانونا سماويا وطبقة تخضع لكل قانون حتى وإن كان قانونا إجراميا دمويا.
علم كما توقع أن كل التيارات السلفية قد رفضت المشاركة في الخروج يوم 25 يناير، أما هو فقد قرر النزول مهما كانت العواقب ورغم أنه كان قد تجاوز الستين سنة من عمره ويعاني من مرض مزمن.
خرج يوم 25 يناير، هتف ضد نظام مبارك بكل ما في قوته حتى بح صوته، لبلاغته وقوة هتافاته وجد نفسه محمولا على الأعناق وقائدا لمظاهرة.
أخذ يهتف: "يسقط الطغيان، يسقط الظلم، لن نستعبد بعد اليوم"، ارتجت بهذا الهتاف ولهذا الهتاف طرق القاهرة، يا له من مشهد مهيب، تذكر مسيرته الطويلة على ظهر هذا الكوكب، تذكر دموعه التي سالت من أجل المظلومين ودفاعا عن المظلومين، تذكر صرخاته المدوية هناك فوق الجبل ضد الظلم، تذكر العهد الرهيب الذي قطعه على نفسه هناك، ها هو ذا يوفي به، حلق في عالم آخر، أحس بأن حشودا هائلة من الشهداء وضحايا الظلم على مدى العصور معهم، تبارك خطاهم وتشد من أزرهم وتهتف معهم.
قرر الاعتصام في الميدان مع المعتصمين، ولكن تغلبت عليهم قوة الشرطة العاتية، أصيب الكثيرون وتم اعتقالهم، نجا هو بأعجوبة وعاد إلى بيته، لم يفتّ هذا في عضده، بل أصبح أكثر عزما وتصميما على تكرار المحاولة.
وفي جمعة الغضب سار مع المظاهرة التي انطلقت من شبرا، تغلبت المظاهرة على كل ما وقف في طريقها من العوائق، على مشارف الميدان خاضت معركة دامية مع قوى الأمن المركزي، لم تستطع تلك القوى الصمود أمام الطوفان البشري الآتي من كل حدب وصوب، ها هو الآن في قلب الميدان وقد أزمع على الاعتصام مع المعتصمين.
علم بهجمات البلاطجة على المراكز التجارية وعلى الناس، استبد به القلق على أسرته الصغيرة وأخذ يعمل عمله، ولكنه فضل الانتظار إلى أن تلوح بارقة أمل، ما إن ألقى مبارك خطابه العاطفي المؤثر حتى بادر بالانصراف إلى منزله مع المنصرفين، اطمأن على سلامة أسرته، كان سكان المنطقة قد شكلوا لجانا شعبية للدفاع عن السكان ضد البلاطجة.
ولكنه فوجئ بهجوم حشود من راكبي الخيول والجمال على الناس في الميدان، استبد به الرعب، هل يمكن أن ينهار كل شيء ويعود عهد مبارك الأسود من جديد، هرع إلى الميدان لينال شرف الاشتراك في تلك الموقعة، كانت بالفعل قد أوشكت على نهايتها، لقد تم دحض الهجوم البهيمي الشرس، إن من هم أضل من الأنعام يدافعون عن ملكهم ونظامهم وسلطانهم بقوة الأنعام.
أما وقد اطمأن على أسرته فقد قرر ألا يبرح الميدان إلا من بعد أن يخرج مبارك من قصر الرئاسة، وهكذا عاش مع أهل الميدان الآلام والآمال والأحلام والقلق والشوق والترقب.
أما الأمر الأهم بالنسبة له فهو أنه أخذ يستنشق من جديد عبير الحرية، أخذ يعب منه بقوة حتى يمتلئ به كيانه، أخذ يخطب في الناس معلنا عن آرائه في كل شيء، لم يتحفظ ولم يتورع، هاجم الظلم والطغيان بكل قوة، شدا بأعذب أناشيد الحرية، اشترك في كل ما استطاع من الحلقات النقاشية، تصدى لدحض كل ما لا يروق له من آراء هي في نظره باطلة، أذهله وأسعده، ولكن أقلقه، التنوع الهائل للآراء والاتجاهات، تعجب من تصاريف القدر، ما الذي ألَّف بين قلوب كل هؤلاء؟ لقد أيقن أن الحكم قد صدر بالقضاء على نظام مبارك الفاسد واقتلاعه من جذوره، ولذلك ألَّف الله بين قلوبهم.
ولكن بعد رحيل مبارك الذي أصبح الآن أمرا محتملا، ما البديل؟ عند هذه النقطة أخذ منه القلق مأخذه واستبد به الرعب، لو فكر الناس جديا فيما فكر فيه هو لتقاتلوا هاهنا حتى الموت، من حسن الطالع أن الترقب الشديد والأمل المشترك والقلق الممضّ ومكابدة أمور الحياة في الميدان قد شغلهم عن الاختلافات الجذرية فيما بينهم، أراد أن يفرّ من مخاوفه بالإقدام على فعلٍ ما، جاءته الفرصة عندما قرر مع الناس الزحف إلى القصر الجمهوري والفتك بمبارك إن استمر متشبثا بالسلطة.
ثم أُعلِن عن رحيل مبارك بعد أن حاول المماطلة، لقد تحققت المعجزة في عصر عزَّت فيه المعجزات، انهار النظام الإجرامي الفاسد العاتي المدعوم من كل قوى الشر والظلم، أخذ يعبر عن فرحته مع الحشود الهائلة بكل ما استطاع من وسائل التعبير، لقد كان انتصاره هو متعدد الأبعاد، إن الانتصار على هذا الطاغية المحلي هو انتصار يمتد عبر المكان والزمان على كل أهل الجور والبغي والطغيان، وهو انتصار على المذاهب التي صيغت لتمكن لهم في الأرض، إنه انتصار على أئمة البغي والظلم من السلف الذين كاد يترك دينه يوما ما ويهلك بسببهم، هو أخذ بثأر صفين وكربلاء والحرة والمدينة والكوفة وغيرها من المواقع التي استشهد فيها أنبل الناس دفاعا عن أسمي القيم جيلا بعد جيل.
ولكن ماذا عن أمن الدولة؟ لقد كان له ثأره الشخصي مع هذا الجهاز الذي لم يكف عن ترويعه هو وأسرته، انتهز فرصة المظاهرات المتتابعة في الميدان للتحريض عليه، أثمرت جهوده مع جهود الآخرين، كان على رأس الحشود التي داهمت حصن أمن الدولة العتيد في مدينة نصر، ها هو الآن في المركز الذي كانت تصدر منه الأوامر بانتهاك آدمية وحقوق وحرمات الناس في سبيل أن يستمر تسلط السفلة والمفسدين عليهم.
ولكن ما إن فرغ من ذلك حتى أحس هو نفسه بالفراغ، إن مصر تتأهب لدخول العصر الديمقراطي، وها هي الأحزاب والاتجاهات تحشد قواها، ما هو مكانه في العالم الجديد؟ ما هو موقفه من المذاهب والاتجاهات الدينية السائدة أو الشائعة؟
إنه لا يمكن أن يكون مع التيار السلفي؛ فهو يختلف عنهم في موقفهم من القرءان، ويختلف عنهم فيمن اختاره من السلف ليتأسَّى به، وهو يختلف معهم في موقفهم من المتسلطين على الأمور، وهو لكل ذلك يختلف عنهم في منظومة القيم والأوزان النسبية للأوامر الدينية.
وماذا عن الصيغة التي يتبناها الأزهر والأزهريون الخلَّص؟ إنه لم يستطع أبدا أن يتقبل أو يحاول أن يفقه العقائد الكلامية، ولكن أعجبه موقفهم العقلاني والمعتدل من كتب المرويات والآثار، ولكنه وجد أيضا أن السلفية قد غلبوهم على أمرهم واقتحموا عليهم حصونهم.
وهو حقا يميل إلى التصوف ولكن يصده عنه ما يراه من محدثات وبعد عن التوحيد النقي الخالص، وهو يعلم أن مزايا التصوف تتوارى وراء ما تراكم من تراث على مرّ العصور، وأنه لو تصوف سيجد نفسه مثقلا بكل هذا التراث وملزما بالدفاع عنه، أما التصوف النقي فهو طريق للخاصة ولا يمكن أن يكون طريقا للمسلمين كافة.
ولقد استقر في ذهنه أنه يستطيع أن يعيش الدين كما يراه هو ولكنه لم يعتبر نفسه ولا يمكن أن يعتبر نفسه زعيما أو مصلحا دينيا أو صاحب مذهب جديد، ليس لديه العدة ولا التأهيل اللازم ليزعم لنفسه شيئًا من ذلك، وبالتأكيد لن يجد من يقرّ له بشيء من ذلك.
وماذا عن الاتجاهات السياسية؟ وجد نفسه بعيدا عن التيار السلفي لما سبق ذكره من أسباب، فضلاً عن أنه لم يعجبه موقفهم أثناء الثورة، وهو يعلم جيدا أن السلفية لا يمكن أن تكون اتجاها سياسيا حقيقيا.
وماذا عن التيارات الليبرالية والعلمانية؟ لقد كان هذا الاتجاه أقرب إليه، إنه يمكن أن يدعو إلى آرائه بأمان في ظل وجود نظام كهذا، كما أن آراءه يمكن أن تجد لها صدى كذلك، إنه يعلم جيدا أنه لا يوجد بديل الآن عن إقامة نظام ليبرالي مدني علماني وطني، وأنه يجب ألا يسمح بالفعل لأية قوة تدِّعي أنها تمثل الدين بالتسلط على الوطن الذي هو لكل من انتمى إليه؛ إنه لابد من ترسيخ مبادئ المدنية والمواطنة والعلمانية وحرية العقيدة والفكر في وطن لا يريد الانتحار في هذا العصر أو لا يريد الدوران في حلقات مفرغة حابسة من الفشل والإحباط، وفي الحقيقة أن الإسلام –كما يتصوره هو- يقدم للناس أفضل مما يقدمه النظام المذكور بكل قيمه ومبادئه، ولكنه للأسف سيتعرض لهجوم كاسح من شياطين الإنس والجن الذين يريدون محو شعوب هذه المنطقة من الوجود أو علي الأقل إبقاءها في حلقة مفرغة من الفشل والهزيمة والإحباط وفقدان الكرامة، هذا بالإضافة إلي هجوم آخر من كافة المذاهب المحسوبة على الإسلام وكافة النحل التي أعماها الجهل والتعصب والحماقة والتطرف والتخلف والبغضاء.
ومن المعلوم أن منتحلي الأديان الأخرى يفضلون أن يتجرعوا شرابا من حميم وكئوسا من العذاب الأليم على أن يتذوقوا دواءً حلوا يأتيهم به الإسلام، إن شعارهم كلهم: عذاب جهنم والموت الزؤام خير من الحياة السعيدة وجنة الخلد إن أتى بهما الإسلام.
رغم موقفه الإيجابي من الليبرالية العلمانية فهو لا يمكنه التفريط في الهوية الإسلامية لمصر، ولقد تلقى صدمة من الحوارات مع معظم من عرفهم من العلمانيين الليبراليين، أدرك أن الكثيرين منهم يكنون كراهية عميقة للإسلام وحقدا مريرا عليه، وفي حين أنهم يكادون يخرون للأذقان سجدا أمام رموز الديانات الأخرى فإنهم يتميزون من الغيظ ويكشرون عن أنيابهم إذا ما ذُكر الإسلام، هذا فضلاً عما لمسه في الكثيرين منهم من وقاحة وسفالة وتطرف، لا يمكن أن تقوم لليبرالية العلمانية قائمة بدون ليبراليين علمانيين حقيقيين، هل يمكن له هو أن يساهم بشيء لدعم هذا الاتجاه؟ بالطبع هو لا يريد ذلك، ولو أراد لما أمكنه ذلك، إنه يمكن أن ينتفع بنظام كهذا في حال وجوده ولكنه لن يبذل ذرة من جهده في سبيل أن يقوم.
نعم للأسف، لقد ثبت عنده أن أكثر المحسوبين على الليبرالية والعلمانية إنما تمسكوا بهما من باب العداء للإسلام واتباع أهواء النفوس، وهم يشكلون بذلك احتياطيا استراتيجيا لألد أعداء مصر؛ الصهيونية العالمية والمنظمات الماسونية، أما عامة المتدينين من النشطين؛ أو بالأحرى من يؤمنون بالنسخة المصرية من الإسلام فهم لن يخونوا مصر، وهم أقرب إلى عامة الناس من أي فصيل سياسي آخر، وهم مضطرون بحكم الظروف للأخذ بأفضل ما في العلمانية والليبرالية، وهذا الأفضل هو في الحقيقة من عناصر دين الحق، إن كل نظام آت مهما كان انتماؤه الأصلي سيأخذ طوعا أو كرها بالليبرالية العلمانية.
إن الحملات الشرسة على الإسلام والتي بدأت منذ أشرق نوره رسخت في قلوب المغضوب عليهم عداءً مريرا له، إن بعض الناس المعادين للإسلام لأي سبب من الأسباب ظنوا أنهم وجدوا في العلمانية والليبرالية ما يحفظ لهم ماء وجههم وكرامتهم بعد أن انكشف للناس فيهم انعدام الأخلاق والقيم والضمير، فهؤلاء قد أساءوا للاتجاهات العلمانية والليبرالية حتى ظن الناس أنها مضادة للدين، والحق هو أن الإسلام الحقيقي يتضمن أفضل ما هو في العلمانية والليبرالية.
وبحكم خبرته وتعمقه في التاريخ أدرك مدى الظلم والتجني والمغالطة التي يتسم بها المحسوبون على التيار الديني، إنه يعلم أن انتشار العلمانية في الغرب هو الذي دفع عن المسلمين خطر الإبادة عندما احتل الغرب العلماني أكثر بلاد المسلمين، وهو الذي مكن المسلمين من الهجرة إلى الغرب والاستمتاع بتقدمهم الهائل على كافة المستويات كما شجع المسلمين على الدعوة إلى الإسلام هناك، ولو ظل الغرب صليبيا أو لو استعاد صليبيته لكانت العواقب وخيمة، ولولا الإرهاب الذي تبناه كأسلوب حياة بعض المحسوبين على الإسلام والذي استغله أعداء الإسلام أسوأ استغلال لتضاعفت معدلات انتشار الإسلام في الغرب.
لقد خلص إلى الاقتناع بأنه رغم أن الليبرالية والعلمانية أصلح ما يمكن لتحقيق التعايش السلمي بين الناس والسماح بتفاعل الآراء والأفكار والتصورات وتطورها فإن المحسوبين على هذا التيار في مصر لا يرجى منهم خير بعد أن أصبح الكثيرون منهم مضرب الأمثال في السفالة والوقاحة والحماقة وبذاءة اللسان وانعدام الضمير والأخلاق، إنهم أصبحوا الاحتياطي الاستراتيجي لكل أعداء مصر، ولكنهم أثبتوا أيضا أنه لا يصلح المصريين إلا الدين!!
وماذا عن الإخوان؟ لقد تعاطف معهم قديما، ولكن صده عنهم في ذلك الحين مواقف بعضهم من رمي المجتمع بالجاهلية وما اتهموا به من محاولة فرض آرائهم بالعنف، أصبحوا يمثلون في نظره امتدادًا للخوارج الذين كان يكرههم لما اقترفوه من جرائم في حق جمهور المسلمين، إنه خير من يدرك خطورة استغلال عواطف الناس الدينية لتحقيق أهداف سياسية، إنه يجب فصل الدين عن الدولة لأن الدين لا يعني الآن إلا ما يقوله رجال الكهنوت وما توارثوه من مذاهب صيغت في عصور الجهل والاستبداد والتخلف ويريدون لها السيطرة الدائمة علي الناس مهما تبين للكل عواقبها الوخيمة عليهم.
لم يحاول مراجعة مواقفه من بعد في ظل ما تكشف من حقائق وفي ظل مراجعاتهم هم لأنفسهم، كان ينأى بنفسه عنهم، في ظل نشاطه السياسي في نهاية عصر الساداتي وطوال عصر مبارك كان ينضم دائما إلى الجماعات غير الإخوانية، ومع ذلك فإن منطلقاتهم الإسلامية ومساهمتهم الفعالة والحاسمة في الثورة تروق له، إنهم بسبب سياساتهم العملية البراجماتية سيتصرفون في نهاية المطاف كليبراليين علمانيين، قرر أن ينضم إليهم، ولكنه منذ أن قرر ذلك أخذ يتلقى صدمات الواحدة تلو الأخرى بسبب إمعانهم في ممارسة سياساتهم العملية البراجماتية التي اجتذبته أصلا إليهم، اكتشف أنه رجل المبادئ الحدية والصدق الصارم، وأنه لا يمكن أبدًا أن يكون براجماتيا.
ربما كان سلوك الإخوان هو السلوك الطبيعي، إنهم قرروا أن يخوضوا غمار اللعبة السياسية، ومن أراد ذلك فعليه أن يلتزم بقواعد تلك اللعبة وأن يستغل كل ما هو متاح له من إمكانات ليفوز، أما هو فمن الواضح أنه لا شأن له بما يُسمَّى بالسياسة، لقد اكتشف ذلك أخيرًا، إنه رجل دين بكل ما يعنيه هذا المصطلح وما يتضمنه من سمات إيجابية رغم أنه لا يُعد كذلك من الناحية الرسمية.
ولأول مرة في حياته أخذ يسترجع بتواضع شريط ذكرياته ليتأكد من أن الدين كان دائما محور حياته، إنه يعتبر نفسه فيما بينه وبين نفسه جنديا متواضعا من جنود الإسلام، كان يتصرف دائمًا كذلك دون أن يعلن ذلك لأحد ولا حتى لنفسه، كان يتوارى حياءً إذا ما ضبطه أحدهم يعمل عملا صالحا أو يقوم بعمل لنصرة الإسلام، ولقد تحمل ما تحمله في عصري الساداتي ومبارك من أجل الإسلام، وهو يعلم يقينا عن نفسه أنه يتمنى أن يقدم حياته كهدية متواضعة لنصرة الإسلام، وهو لفرط تواضعه وإنكاره الصادق لذاته ليس على يقين من أنها يمكن أن تُقبل، هو إذًا ليس بالرجل السياسي، ولكن ما هي السياسة، وهل لابد منها أصلا؟
إن قوانين الوجود وسننه تقتضي أن يُقتصَّ من الظالم بظالم مثله وأن يُسلَّط أكثر الناس شرا على شرارهم وأن يتولى الظالمون أمر بعضهم البعض، ولابد أن يتمثل كل ذلك في الساسة وفي السياسة، ذلك لأن الأكثرية تخشى السلطان أكثر من القرءان؛ وخشيتها من الشخص المتسلط أكبر من خشيتها من الرحمن الرحيم، فهم ظالمون لأنفسهم، إنه لا يمكن لأناس قد تمكنت منهم منظومة الصفات الشيطانية واستحقوا العقاب في هذه الدنيا أن يسوسهم الصفوة من أولي الألباب، وإنما يسوسهم من هو ظالم مثلهم، أما الشعب العادي الذي خلطت كياناته عملا صالحًا بآخر سيئا فسيقوم بأمره من يكون بمثابة المتوسط العام لهم كلهم، ولا يمكن أن يتولى أمره الصفوة إلا في الحالات الاستثنائية ومنها ضرورة إخراج أمة للناس.
لكل ذلك تبدل موقفه من السياسة، أصبح يدرك أنه يمقتها كما أدرك أنه غير مؤهل ليلعب لعبتها، إنه بالنسبة للنظام القديم كان معول هدم، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنه يعرف كيف يبني النظام الجديد، إن الهدم سهل، وقد يجمع الناس على ضرورة هدم بناء صار خطرا على سكانه والآخرين، ولكنهم لن يجمعوا بالضرورة -بل لابد أن يختلفوا- فيما يتعلق بشكل البناء الجديد، وأكثرهم قد لا يكون لديهم بخصوص ذلك إلا تصورات عامة، ولكن أقلهم من يملك القدرة على التصميم والتنفيذ.
والسياسة -في أحسن صورها- تقدم الحلول الواقعية لإدارة أمور طوائف متباينة متناحرة تتضارب بالضرورة مصالحها وتتفاوت درجاتها من حيث الأخلاق والتمسك بالقيم وترتيب الأولويات.
أما الدين فهو لأكثر الناس مجرد وسيلة لتحقيق مآربهم، وأكثرهم من أول الشحاذين إلى ما يسمى بالدعاة ورجال الكهنوت لديهم القدرة على التكسب به، والأقلية هم من لديهم الاستعداد لتقديم تضحية جادة في سبيل دينهم أو لتقديم أمور دينهم على مصالحهم الشخصية.
لكل ذلك فلا مفر من السياسة التي لن ينزل إلى مستوى التعامل بها إلا من لم يكن رجل مبادئ حدية صارمة أو لم يكن رجل دين بالمعنى الحقيقي، لكل ذلك أدرك أنه قد يكون مؤهلا ليكون ولي أمر بالمعنى الديني، ولكنه غير مؤهل ليقوم بأمور الناس بالمعنى العملي الواقعي، هو إذًا غير ملزم بالانتماء إلى حزب سياسي ولا بممارسة اللعبة السياسية ولا بإظهار تأييده لأي حزب.
وجد نفسه يفكر في الأنارشيستيين الفوضيين، ولكنه يعلم أنه يختلف عنهم تماما، ففي حين يسعون هم للتحلل من كل نظام فهو يلزم نفسه بالنظام الإسلامي بكامل أركانه وتفاصيله.
ولكنه في الحقيقة كان يلزم نفسه بالإسلام كما يراه هو وليس غيره، ماذا إذًا لو آمن كل مسلم بالإسلام وفق تصوره الخاص مثلما يفعل هو؟ أليست هذه هي الفوضى بعينها؟ الفوضى التي يمكن أن تمس الجوهر والقلب وليس فقط الأمور العامة أو السطحية، وحتى على المستوى الشخصي فهو الآن يؤمن بالإسلام وفق مبلغ علمه، ماذا لو زاد علمه أو كان ثمة –وهو أمر مؤكد- أن يوجد من هو أعلم منه وتمكن من دحض تصوراته؟ تأكد لديه أن منهجه هو على الأقل ليس بكافٍ ولا بمكتمل، وهو لم يعد بحاجة إلى إعادة فحص ما هو موجود على الساحة، إن مذهبه هو بيقين أفضل منها، لذلك لم يكن لديه أدنى استعداد للتخلي عنه إلا لما هو أفضل منه، وهو في نظره غير موجود، على الأقل حتى الآن.
لم تشغله شدة الانشغال بالشئون العامة عن أعمال العبادة، لم تكن الدنيا يوما ما أكبر همه ولا مبلغ علمه، كان دائمًا أميل إلى ضروب العبادة غير التقليدية أو بالأحرى المهجورة، كان كل همه أن يوطد صلته بربه، بذل في سبيل ذلك كل ما هو في وسعه.
ثم روَّعه ما بدأ ينتشر من شعارات مغرضة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، كان يعتبر أن شعار "الإسلام هو الحل" من هذه الشعارات المبهمة الخطرة، كان أخشى ما يخشاه أن تتدهور الأحوال إلى الحد الذي تفقد مصر ركنا من أهم أركان قوتها والذي كان دائما من أسباب تفردها: الحرية، لقد كان يخشى على حرية مصر من التيارات الدينية التي اشتد ساعدها، أحس بحاجته إلى الحوار معهم، وجد أن أفضل من يمكن أن يتحاور معه هو معاذ السلفي صاحبه القديم في السجن.
قال معاذ بعد أن استمع جيدا لمجمل آرائه:
لست أدري لماذا تحاول تحصيل الحاصل؟ ألا تعلم أن ذلك من المستحيلات؟ ولماذا لا يسعك ما وسع غيرك وتتأسى بالسلف الصالح وتأخذ بما وصلوا إليه عبر القرون وتجعل همك تنفيذه والعمل بمقتضاه بدلا من إعادة تمحيصه التي لن تعود بأية فائدة؟
قال وجدي: هل أنت تقول بعصمة السلف؟
قال: كلا بالتأكيد، قال: هل يمكن أن يكتسب الرأي البشري مصداقية أو حقانية بمجرد التقادم؟
قال: كلا، قال: إن قولك يتضمن الإيمان بأن سهم التطور ينحدر إلى أسفل، وأن الماضي دائما أفضل من الحاضر والمستقبل وأن الزمن السعيد قد أتى وولى ولن يعود، وهذه ادعاءات ليس عليها أي دليل، وهي تتضمن تكذيبا بآيات القرءان التي تشير إلى أن سهم التطور يرتفع إلى أعلى وأن تأويل الآيات سيأتي حينا بعد حين حتى يتبين لهم أنه الحق، ألم ينهكم القرءان عن اتباع الآباء لمجرد أنهم آباء أو اتباع الظن أو اتباع الأهواء وغير ذلك من الأمور غير الموضوعية، ألم يأمرك بألا تقبل أي قول إلا ببرهان مبين؟
فوجئ السلفي بالمنطق الدامغ، أحس أنه يقاتل خارج أرضه، وجه سؤالا يريد به هدنة لالتقاط أنفاسه، قال: وما الذي يهمك الآن فيما يجري من أمور؟
قال: إن كل ما يهمني الآن وما أسعى إليه هو الحرية على كافة المستويات، لذلك فإنه إذا كان لابد من رفع شعار فليكن هذا الشعار: (الليبرالية العلمانية الوطنية هي الحل)، وتحقق هذه الصيغة هو خير ضمان للحرية، قال السلفي: من العجيب وأنت المجاهد القديم أن تنادي بالعلمانية، ألا تعلم موقف العلمانية من الدين؟ ألا تعلم أن من واجبنا أن ننتصر لدين الله وأن ننشره، أننادي بالعلمانية ونحن نوشك أن نحقق انتصارنا؟
قال وجدي، إنك في الحقيقة ستعمل على نشر مذهبك، وأنت بذلك ستصد الناس عن سبيل الله وستحمل الإسلام وزر قصور مذهبك وقصوركم أنتم كدعاة إلى الدين.
قال معاذ: ماذا تقصد بقصور المذهب وقصورنا كدعاة، قال وجدي: أما قصور المذهب فإنني أستطيع أن أثبت لك بما لا حصر له من الأدلة كيف يختلف مذهبكم عن الإسلام، هذا فضلا عن أنه لا يكاد يتضمن شيئًا من حقانيته وعظمته وكماله وعالميته وشموله، أما قصوركم فهو مترتب على عدم عملكم بالإسلام من حيث أنه هو الدين الكامل الخاتم.
قال معاذ: أعطني ولو مثالا واحدا، قال وجدي: ما هو الأمر الذي ورد في القرءان بأقوى ما يمكن من التأكيدات اللغوية؟ لم يجد السلفي ما يقوله، التزم بالصمت.
قال وجدي: هو هذا الأمر:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيرا} النساء58،
فما هي مرتبة ما أمر الله به هاهنا في مذهبكم؟ أنت تعلم جيدًا أنكم تقدمون عليه أمورا تعتبر ثانوية جدا بالنسبة له، أليس كذلك؟
والمشكلة أنكم ستضطرون طوعا أو كرها للأخذ شيئا فشيئا بعناصر الإسلام الحقيقي، ولكن ذلك سيستلزم تضحيات هائلة وصراعات دموية، لذلك فلا بديل عن العلمانية لتوفر ما هو لازم للتطور السلمي الآمن والأخذ بالإسلام الحقيقي، فالعلمانية تضمن الحرية على المستوى العقائدي، فهي تقتضي ألا يتسلط دين أو مذهب علي سائر المواطنين وألا يضطهد مواطن بسبب دينه أو مذهبه وألا يحرم حقاً من حقوقه كإنسان وألا تمتهن كرامته، وحقوق الإنسان معلومة وموقع عليها من قبل معظم الدول، وهي الضمان الوحيد المتاح الآن لكي لا يفترس الناس بعضهم بعضاً بسبب التعصب الديني أو المذهبي، وهي التي ستوفر ما يلزم للتطور السلمي نحو الأخذ بالإسلام الحقيقي.
ولذلك أيضا فلابد من الليبرالية، إن الليبرالية هي حرية الرأي والفكر والعقيدة والإعلام والدعوة، وهي تتضمن احترام حقوق الإنسان وكرامته، فهي التي تضمن ممارسة الإنسان لحقوقه والحفاظ على حرياته وعرض آرائه ومقترحاته والتفاعل البناء بين الآراء المختلفة.
فمن لوازم الليبرالية حرية عرض الأفكار والآراء في شتى المجالات والدفاع عنها وتقديم البراهين اللازمة، ومن لوازم الليبرالية حرية الإنسان في التصرف في ماله وتنميته واستثماره.
ثم فاجأه وجدي بأن سأله: ما قولك أنت في الوطنية؟
قال معاذ: لكي أكون صادقا معك وطبقًا للمذهب الأصلي لا وجود لهذه الكلمة عندنا، وكل ما أعرفه هو كيفية التعامل مع أهل الكتاب الواردة في كتبنا، وباعتباري صادقا مع نفسي فما يمكن أن أقوله فيما يتعلق بالوطنية هو محض اجتهاد مني، ولذلك من الأفضل لي سماع رأيك.
قال وجدي: إن الوحدة الدولية الآن هي الوطن الذي تتعايش فيه طوائف عقائدية أو لغوية أو عرقية مختلفة، والإسلام الحقيقي، وليس مذهبكم، يلزم كل الطوائف بالتعايش السلمي فيما بينها والقيام بالقسط وتحقيق العدل ويجعل المسلم ملزما بالقيام بحقوق جيرانه في نفس الوطن الذي هو كالبيت الكبير، فكل إنسان ممن ينتمي إلى دين آخر أو إلى مذهب آخر له على أمة الإسلام في نفس الوطن حقوق الجار الجنب والصاحب بالجنب فضلا عن أنه مستخلف في أرض الوطن، وله حق الانتفاع بهذه الأرض مثلك، أما الخلافات العقائدية والمذهبية فلن تحسم إلا في يوم الفصل.
قال معاذ: وماذا يمكن أن يترتب على ذلك؟ قال وجدي: إن الوطنية تستلزم التأكيد على المصالح الحقيقية التي تربط أبناء الوطن الواحد وتستلزم سن التشريعات ضد كل من يهدد كيان الوطن بإثارة الرأي العام أو إشاعة معلومات تاريخية مغلوطة أو مضللة أو تؤدي إلى إثارة الشقاق والضغائن بين أبناء الوطن الواحد، فلا يجوز لأية طائفة أن تشكك في وطنية الآخرين ولا في حقيقة انتمائهم للوطن ولا في هويتهم الوطنية، وينبغي أن تتصدي الأمة كلها ممثلة في كافة مؤسساتها لمثل هذه الاتجاهات التخريبية.
قال معاذ: ألا ترى أنه ثمة تناقض لا سبيل إلى دفعه بين المواطنة وبين الدين؟ قال وجدي: إنه لا يوجد تناقض بين الدين وبين المواطنة، إن لكل مواطن حق الانتفاع بما في وطنه، فله فيه من حيث هو مواطن ما لغيره، وليس لغيره أن يغتصب شيئًا من حقوقه تحت أية دعوى من الدعاوى، والدين يحترم حق الملكية ويعتبره حقا مقدسا، وكذلك يجعل للجار حقوقا ويجعل من حسن الخلق معه ومعاملته بالحسنى من أعمال البر، واعلم أن الإنسان من حيث هو إنسان له حقوقه وهو مكرم وخليفة في الأرض، فما بالك إذا كان جارًا لك ومستخلفا في أرض الوطن مثلك؟ قل لي: هل يمكن أن يسمح لك دين الحق لمجرد أنك ولدت مسلما أن تغتصب بيت جارك من أهل الكتاب أو أن تستولي على أمواله، إن الظلم محرم لذاته والظالم ملعون في الدنيا والآخرة.
إنه يجب التمسك بمبدأ المواطنة، وهو حق إنساني وليس بمنحة من أحد، ومبدأ المواطنة يكفل حقوقا عامة لكل مواطن لمجرد كونه من أفراد الشعب المكون للدولة، فهو يكفل له المساواة أمام القانون مع غيره كما يكفل له حقوقا عامة بالإضافة إلى الحقوق النسبية الأخرى، والمواطنة هي من لوازم الإسلام الحقيقي، وليس إسلام المذاهب والمتجرين بالدين والمؤسسات الدينية المعادية بحكم طبيعتها للحضارة والإنسانية، فالمواطنة ليست إلا من لوازم وتفاصيل الحكم بالعدل والقيام بالقسط وأداء الأمانات إلى أهلها، فالمواطن المختلف عنك في الدين أو المذهب شريك لك في الوطن الذي هو البيت الكبير كما أنه أخ لك في الإنسانية، هذا بالإضافة إلى أن حرية العقيدة هي حق إنساني ومبدأ إسلامي ديني.
قال له معاذ: لقد ضاعفت من حيرتي من أمرك، كيف وأنت المتدين القديم تتحدث كالعلمانيين، قال له: العلمانية التي آخذ بها هي جماع القيم المضادة للمنظومة الكهنوتية بكافة عناصرها من التصورات والمفاهيم والصفات، وهي تعني عدم السماح لأية سلطة بفرض دين أو مذهب أو عقيدة علي الناس أي عدم السماح لأية مؤسسة أو مجموعة طائفية بفرض عقيدتها على الآخرين واضطهاد من يخالفها، فالعلمانية بهذا المفهوم لا تعارض التدين ولا تعادي الدين، وإنما هي جماع الآليات والمبادئ والنظم التي تتخذ موقفا محايدا من شتى الأديان والمذاهب والأطروحات وتسمح لها بالتفاعل السلمي البناء الذي لا يتمترس فيه مذهبٌ ما خلف ركام من الأضاليل والتحكمات والتسلطات ولا تسمح له بأن يتقوى على غيره بها، بل يخوض الصراع السلمي بقوته الذاتية وحدها، ألا تري أن تمسكي بالعلمانية هو في اتساق تام مع تمسكي بالحرية وجهادي للفوز بها؟
قال معاذ: وما شأن العلمانية بالإسلام؟ قال وجدي: ألا تعلم أن للإسلام سماته المميزة، ولتلك السمات الأولوية والتقدم على كل ما يتعارض معها، فلعلَّ عجبك يزول إذا عرفت أنه توجد سمات مشتركة بين الإسلام وبين العلمانية، وهذه السمات راسخة، ولا تستطيع أنت ولا غيرك التشكيك فيها، فمن ملامح علمانية الإسلام:
التسامح الديني، أنه جعل من مقاصده وأركانه أن يستعمل الناس ملكاتهم الذهنية، أنه لا يهمل شأن الحياة الدنيا بل أعلن أن من المقاصد الوجودية الكونية أن يكون الإنسان خليفة في الأرض يستعمرها وينتفع بها ويصلح فيها، أن من مقاصده الشرعية صلاح أحوال الناس والقيام بالقسط والحكم بالعدل والتصدي للمفسدين في الأرض، عدم وجود سلطة كهنوتية في الإسلام؛ فالمراتب الدينية العليا متاحة للناس كافة، عدم السماح بأن يحظى أي فرد بميزة مجانية بسبب وظيفة دينية أو انتماء إلى سلالة معينة، الإقرار بحقائق الوجود وسننه وما يترتب عليها من حتمية الاختلاف بين الناس فلا يمكن أن يتطابق اثنان منهم تمام التطابق ولا أن يتفقا في كل شيء، وجوب التصدي للظلم والاضطهاد والعدوان، احترام فطرة الإنسان، احترام القوانين والسنن الكونية والتاريخية، عدم سب الآخرين ولا التطاول علي معتقداتهم أو سبها أو الاستهزاء بها، ولا يستلزم هذا من المسلم أن يعجب بباطلهم ولا أن يمتنع عن الجهر بالحق الذي يعرفه ولا أن يسعى لاسترضائهم، واعلم أن القرءان لا يأمر المسلمين بأن يشنوا حرباً لا نهاية لها ضد كل من خالفهم –كما يعتقد بعض المذاهب- بل أعلن أن هذا الخلاف كان بأمر الله وبتدبيره، وهو بالطبع لا يأمرهم بقتال من أمرهم أن يحكموا بما أُنزل إليهم في كتبهم.
فهذه هي السمات المشتركة بين الإسلام والعلمانية، فالعلمانية على ما فيها من مآخذ ليست محض شر، وهذه السمات المشتركة بين الإسلام والعلمانية دفع الغرب الثمن غاليا ليعرفها في حين إن المسلمين تلقوها بمحض فضل إلهي فأعرض معظمهم عنها.
قال معاذ: ألا ترى أن الدين سيفقد مكانته المبجلة في ظل نظام علماني؟
قال وجدي: كلا، بل سيختفي المنافقون، كما أنه في ظل نظامٍ علماني سليم يمكن للدين أن يكون قوة تقدمية تسمو بأخلاق الناس بحيث يستفيد الوطن والدين بل والبشرية كلها من جهودهم، أما بدونه فستظل المذاهب الضالة تنتج وحوشا مجرمين همجيين يشكلون خطرا داهما علي أنفسهم وعلى أوطانهم وعلى دينهم وأيضا على البشرية جمعاء، وفي ظل النظام العلماني يمكن التفاعل المثمر بين كافة المذاهب كما يمكن التنافس السلمي بينها، وبذلك يمكن أن تزداد الثروة المعنوية والثقل القيمي أو القوة الناعمة للأمة، ألا تعلم أن مصر مثلاً مدينة بجزء كبير من مكانتها التي حققتها في القرن العشرين لجهود وإنجازات أبنائها في الفترة الليبرالية العلمانية التي عاشتها في النصف الأول من ذلك القرن؟
ولقد تجاوزت الصيغة الدينية السائدة بين المثقفين بالفعل معظم مسلمات ومقولات المذهب السني أو المذهب السلفي، إن سيادة النظم الشمولية التي تستند إلى الادعاء بامتلاك القول الفصل والحقيقة المطلقة في كل أمر من الأمور هي أخطر شيء على الناس، وهي تؤدي بالضرورة إلى تدهور الإنسان على كافة المستويات، وحتى إذا ما أدت إلى تفوق في مجالٍ ما فإنه لن يكون إلا تفوقا وقتيا مهددا في كل لحظة بالانهيار.
قال معاذ: إنك تكاد تجعل من العلمانية دينا شاملا.
قال وجدي: كلا: إن العلمانية ليست دينا، وهي ليست بنقيض للإسلام ولا لأي دين آخر، ولكنها اسم يطلق على مجموعة من المبادئ التي تسمح لشعب يعيش في وطن واحد يشكل دولة واحدة -بينما تتعدد أديانه ومذاهبه الدينية واتجاهات طوائفه السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية- بالعيش في سلام، فالعلمانية هي التي تسمح لتلك الطوائف كلها بالتعايش السلمي، وهي التي سمحت للمسلمين من شتى بقاع الأرض بالهجرة إلى دول الغرب المتقدمة وهي التي توفر لهم الحماية هناك، وهي التي سمحت لهم أصلا باكتساب حقوق المواطنة هناك.
وبالطبع فإن الإسلام الحقيقي الرحيم المتسامح يوفر لشتى الطوائف ما هو أفضل بكثير من العلمانية، ولكن هذا الإسلام أصبح شبه مجهول منذ أن زعم أتباع المذاهب أن آية السيف قد نسخت كل آيات الرحمة والتسامح والعفو والصفح وحرية العقيدة الموجودة في القرءان، بل منذ أن قالوا بأن في القرءان آيات منسوخة ليتمكنوا من صياغة الدين كما يحلو لهم، وفي الحقيقة إنه في كل الدول التي لدي طوائفها الإسلامية إدراك حقيقي لمقومات مذاهبهم قد تبين استحالة التعايش السلمي فيما بينهم وبين غيرهم إلا في وجود سلطة قاهرة أو في حالة اعتماد نظام علماني بعد أن ذاق الجميع مغبة الاقتتال على أسس مذهبية، ولقد كانت الحروب المذهبية الطاحنة بين أتباع المذاهب المسيحية المختلفة من أهم الأسباب التي قادت الناس في الغرب إلى تبني العلمانية.
أما موقف الأحزاب المحسوبة على الإسلام من العلمانية فهو موقف مريب، فهم يستغلون تعصب الناس الطبيعي لما ألفوا عليه آباءهم وكذلك جهل الناس بالمصطلحات الحديثة ويؤلبونهم على المنادين بالعلمانية في سبيل الحصول على مكاسب انتخابية وهذا يشكل خطيئة متضاعفة وإثما مبينا ولن يترتب عليه أي خير للناس.
لم يسفر حواره مع معاذ عن تقدم كبير، إن معاذ لم يفقه كثيرا مما قاله، قرر من جديد أن يعود إلى طرح آرائه على مواقع التواصل الاجتماعي، نشر نفس الآراء التي ألقاها على معاذ، فوجئ بهجوم عاتٍ شرس، إنه لا يدري كيف أن من ارتضوا اللعبة الديمقراطية يحاولون اغتيال كل من اختلف معهم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التعرف عليه وعلى مجمل آرائه.
رأى أن الحوار مع معاذ أسلم عاقبة، كان لابد من أن يعلق على ما حدث، قال له: من العجيب أن الكثيرين من المنتمين إلى ما يسمى بالتيار الديني ليس لديهم أدنى ذرة من أخلاق الإسلام وقيمه ومُثُـله بل هم في الدرك الأسفل من سوء الخلق وخبث الطوية، وآية ذلك أنه إذا اختلف أحد معهم رموه بأبشع الاتهامات وأقذع الشتائم، فإذا كان هؤلاء أعجز من أن يتحلوا بمكارم الأخلاق الإسلامية فكيف سيدعون الآخرين إليها؟ هل اختزل الإسلام ليصبح مجرد الانتماء إلى أحد الأحزاب التي تدعي أنها إسلامية رغم أنه من الممنوع قانونا قيام أحزاب على أساس ديني؟ وهذا من بعد أن اختزل من قبل إلى إطلاق اللحية وارتداء النقاب والجلباب؟
قال معاذ: لا تعمم آراءك، ولو التقيت بعض المثقفين من المنتمين إلى التيارات الإسلامية لسعدت بسعة صدرهم، قال وجدي: هل تعتقد ذلك؟ وإذا ما سعدت بسعة صدرهم فهل لدى أيٍّ منهم أي استعداد لتغيير رأي من آرائه إذا ما ثبت خطؤه أو التخلي عن مقولة من مقولات مذهبه إذا تمَّ دحضها؟
تذكر وجدي من جديد ما تلقاه من شتائم في جداله مع أتباع ما يسمى بالتيار الديني فأخذه الغضب وعلا صوته وهو يقول: اعلم أنه لا حل إلا في سيادة نظام علماني ليبرالي مدني يكفل للناس كافة حرية الدين والمذهب والعقيدة والفكر وذلك للأسباب الآتية: 1- سيادة المذاهب الضالة المختزلة والمتنافية المتدافعة في الوقت ذاته والتي لا تمتلك صيغاً تمكن أتباعها من التعايش السلمي فيما بينهم، 2- حقيقة أن أكثر الناس مبرمجون علي أخلاق وصفات لا تمت إلي الإسلام الحقيقي بكثير صلة، 3- سيادة منظومة أخلاق وصفات شيطانية قوامها الجهل والانحطاط والتخلف والتسفُّل والاستبداد والظلم والنفاق وحب الدنايا وعبادة الباطل وكراهية الحق واتخاذ البشر أربابا من دون الله تعالى.
قال معاذ: يبدو أن الغضب أخذ منك مأخذه، قال وجدي: إنه غضب في سبيل الإسلام الحقيقي وليس في سبيل العلمانية، وها أنا ذا أكرر القول: حيث أن قطعانا من البشر ستظل تقاتل بشراسة دفاعا عن عقائد ومذاهب تنتهك أبسط حقوقهم وتنزل بهم إلى ما دون مرتبة الأنعام وتدفعهم إلى أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله فإنه لا حل إلا في نظام علماني حقيقي يقوم علي أحدث ما وصلت إليه البشرية في صراعها الطويل نحو إقرار حقوق الإنسان والحفاظ علي كرامته.
إن العلمانية ستصون الدين من أن يعبث به المتسلطون أو المغرضون أو أن يتكسب به بعض من يسمون برجال الدين الذين يعمدون إلى ليّ عنق النصوص وتأويلها لتبرر للناس ما يفعله بهم المتسلطون.
إن العلمانية تعني أساسًا رفض تسلط الكهنوت والمتكسبين بالدين ورجال الدين على الناس ولا تسمح لهم بإقحام أنفسهم فيما هو خارج نطاق تأهيلهم وتخصصهم وتسمح للناس بالعمل على تحسين ظروف حياتهم ولا تجعل الراهب ولا المتكسب بالدين مثلاً أعلى، وهي تعني حرية العقيدة وهي لا تسمح لأحد بأن يتكسب بالدين، وكل ذلك متفق تماما مع الإسلام دين الحق.
التفت إلى معاذ وقال له: ألا تسلم معي بفشل وعدم جدوى كافة التيارات المحسوبة الدين والتي تطفو على السطح الآن؟ قال معاذ: كلا، لا أسلم معك، إن التجربة ما زالت في بدايتها!
قال وجدي: إنكم وأنتم ما زلتم في البداية ولم تتحملوا أية مسئولية جادة قد تخليتم عن الكثير من مقولاتكم وأسس مذاهبكم، أليس هذا هو الفشل بعينه؟ وبدون أن ينتظر ردا من معاذ أضاف: إن فشلكم إنما هو لافتقاركم إلى منظومة القيم الإسلامية، إنه إن لم يرجع المصريون إلى دينهم ويتمسكوا بقيمه ومثله فسيكون بأسهم بينهم وسيمزقون وطنهم بأيديهم ولن يتمكن من فرض الأمن إلا نظام فرعوني جديد، وهذا أخشى ما أخشاه، إنه يجب أن تخف حدة منظومة الأخلاق الشيطانية بأركانها المعروفة: الحقد والكراهية والسفالة والجهل والعناد والشرك والنفاق والرغبة في الانتقام وعبادة الدنيا والكفر والظلم والفسق والحماقة والكبر والوقاحة وازدراء القيم.... الخ.
كما يجب أن تسود منظومة القيم الإسلامية: الإيمان والعلم والعمل المتقن والحق والقسط والعدل والإخلاص والعفو والصفح الجميل والتسامح والحلم والحب والصبر والنبل والمروءة والصبر والتواصي بالحق واحترام العلم والعلماء.... الخ.
قال له معاذ: وكيف برأيك حدث الانحراف عن الإسلام الحقيقي الذي تنادي به؟ قال: إن السبب واضح ومعلوم، وهل يمكن أن يظن أحد أن الشيطان قد أحيل إلى التقاعد أو أخذ عطلة مفتوحة بمجرد ظهور الإسلام؟ أم أن نشاطه قد اشتد وتضاعف، سيظل الشيطان يصطفي لنفسه مرضى النفوس ويربيهم على عينه ويسيطر عليهم ويجعل منهم حربا على الإسلام والمسلمين، اعلم أنه يجب عليك كمسلم أن تؤمن بوجود الشيطان وأنه يجد لزاما عليه أن يضلك ويضلّ كل الناس وأنه يستمتع بذلك، إن تكرار ذكره في القرءان لم يكن عبثا ولم يكن للتسلية، أنت ملزم باتخاذه عدوا.
إن الإسلام هو دين الحق وهو الدين الخاتم والكامل الذي تم به استخلاف الإنسان في الأرض، وهو يلزم المسلمين بأن يكونوا أمة داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، ولقد حذر الله تعالى الإنسان من الشيطان وأمر الناس باتخاذه عدوا، وهذا الشيطان لا يلعب، وهدفه هو قيادة أكبر قدر من الناس إلى جهنم، وهو لذلك يعمل على إحباط كل رسالة بإلقاءاته الشيطانية التي يستقبلها المؤهلون لذلك من شياطين الإنس والمنافقين والفاسقين، ومنذ ظهور الإسلام وهو يعمل على إحباط رسالته، وعلى مدى التاريخ استجاب له حشود هائلة بدءا من المنافقين الذين ذكرهم القرءان وأمر بجهادهم والذين تضاعفت أعدادهم ودبروا المكائد والفتن وأوقعوا الأمة في فتن مظلمة، وكذلك استجاب له معظم من تسلط على الأمة منذ الانقلاب الأموي المشئوم إلى حكام العصر الحديث، ولقد قام عملاء الشيطان بالدس بغزارة في التراث الديني، وأدى ذلك إلى تحريف الدين وظهور المذاهب، وكان الدس لأسباب لا حصر لها، وكل ذلك كان يتم تحت إشراف الشيطان، فالشيطان وجنوده من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
واعلم أنني أستطيع أن أقدم لك في عبارات وجيزة خلاصة المذاهب التي حلت محل الإسلام وخاصة السلفية منها، هم –مهما موَّهوا- يقولون بلسان الحال وأحيانًا بلسان المقال ما يلي: (الكتاب العزيز ليس فيه شيء، الرسول ليس إلا مجرد حامل رسالة، ما هو منسوب إليه أهم بكثير منه، جل مادة الدين مأخوذ من كتب المرويات، يجب الأخذ بكل المرويات وإن تعارضت مع القرءان أو ألقت بظلال من الريبة عليه ومهما تناقضت مع بعضها البعض، المرويات حاكمة وقاضية على الكتاب العزيز، يجب الإيمان بكل شيء على فهم (الصحابة) مع أنه غير مدوَّن ولا يعرف عنه أحد شيئا، وبالتالي يجب الإيمان بأقوال أشخاص معينين من الخلف والذين هم لنا نحن سلف؛ هؤلاء فقط هم الأرباب المشرعون ما يعقدونه في الأرض يصبح لتوه معقودا في السماء، ألدّ أعداء الدين هم المسلمون غير السلفيين وهم أكفر من اليهود والنصارى، ليس المهم ما في الكتاب العزيز نفسه ولكن ما قاله عنه ابن تيمية أو ابن قيم الجوزية أو ابن كثير أو ابن عبد الوهاب أو أي ابن آخر، يجب تكذيب الكتاب ولكن بأدب وتلاوته بالبكاء والدموع واستظهاره مع تجنب اتخاذه إماما، الكتاب هو المرجع الأول للدين ولكن أكثر آياته ظنية المعنى ولذلك يجب تقديم أي مصدر آخر عليه، نعم إن القرءان مبين ولكنه في الحقيقة ليس مبينا بل هو مبهم؛ لذلك هو في حاجة ماسة إلى أي شيء يبينه، القرءان تبيان لكل شيء ولكنه في الحقيقة لم يبين معظم الأشياء، أية آية قرءانية خالفت المذهب أو آراء الأئمة هي منسوخة).
قال معاذ: هل أنت جاد فيما تقول؟ قال وجدي: وهل تريد أن أُثبت لك كل جملة مما قلته من أقوال أئمة مذاهبكم وأئمتكم؟
قال معاذ: إنك تختص المذهب السلفي بقدر كبير من انتقاداتك، أليس هذا أمرا عجيبا خاصة وأنك مدين لهذا المذهب بالكثير؟ قال: لا أختص مذهبًا بشيء، لابد أنه في كل مذهب من الحق ما أرجو به النجاة للمنتمين إليه، ولكن لابد فيه أيضا من قدر من الباطل.
ألا ترى أن السلفية يقولون إنهم يؤمنون بالكتاب والسنة على فهم السلف، وهذا الشرط يخرجهم من دائرة المسلمين وفيه سوء أدب مع رب العالمين، فلابد من الإيمان بكتاب الله دون قيد أو شرط وتقبل تأويله الذي أعلن الله أنه سيأتيهم به حينا بعد حين، ومن المعلوم بالضرورة أن كل السابقين الأولين وهم خير السلف لم يفسروا القرءان ولم يطالبوا أحدًا بالإيمان بكلامهم، وإلا فاذكر لي اسم واحد من السابقين الأولين فسَّر القرءان، كما أن السابقين الأولين لم يضعوا منهجا لفهم القرءان ولا لتفسير الدين ومن ادعى عليهم ذلك فهو كاذب.
ولا يجوز تفريق الدين ولا تمزيق الأمة فذلك من كبائر الإثم، فالمسلمون ملزمون بتكوين أمة واحدة وهذا أمر قرءاني ملزم لأية جماعة إسلامية.
قال معاذ: طالما لا يوجد مذهب ديني يتضمن الحق خالصا، ألا ترى معي أن التمسك بالمذهب السلفي خير من الاعتصام بغيره؟
قال وجدي: إنه ما من أمة أصيبت بداء السلفية أو الماضوية إلا وضربتها أعراضه اللازمة مثل الشرك والنفاق والعته والجهل والتخلف والفساد والولع الشهوات والملذات والتمسك بالقشور والشكليات وانتهاك حقوق الإنسان واستعباد الناس....
إن النهج الاتباعي يؤدي إلى تقديس وتوثين الأسلاف والافتتان بهم والزعم بأنهم بلغوا غاية الغايات ولم يتركوا شيئا لمن جاء بعدهم، وهكذا زعم أتباع هذا المذهب أنه لم يبق على الخلف إلا الاكتفاء بترديد أقوال وآراء السلف واستظهارها وشرحها واختصار شرحها وشرح اختصار شرحها واختصار شرح اختصار الشرح ولقد أدي ذلك إلى تحنيط الدين.
فالسلفية يتبنون مذهبا معاديا للإنسانية وللحضارة وللإسلام، والأخطر من الناحية الدينية أن عقيدتهم تشبيهية تجسيمية، أما الإخوان فحقيقة توجهاتهم الدينية غامضة، وهم يسعون إلى تجاوز كل الخلافات بين المذاهب، وليس حسمها، ولكن ذلك ليس في سبيل إظهار دين الحق وإنما للوثوب إلى السلطة، وعلى العموم فالسعي إلى السلطة ليس جريمة في النظم الديمقراطية، ولكن يبقى الإسلام فوق كل ذلك، وهم لا يكادون يؤمنون إلا بجماعتهم وتنظيمهم.
ويجب أن تعلم أن نقدي لشتى المذاهب التي تفرق إليها الدين لا يعني أنها الباطل المحض إذ لابد في كل مذهب منها من قدر من الحق قد يكفي لزحزحة معتنقه عن النار وإدخاله الجنة إذا ما صلح عمله وحسن خلقه وصدق عزمه على اتباع الحق واجتناب الباطل كلما تبين له الأمر، كما أنه لا يجوز تكفير معتنقي المذاهب فهم بالتأكيد من الكفر فروا، ولابد أن الخير هو في هذه الأمة، ولكن يجب بيان خطورة التمذهب وخطورة اندثار دين الحق والجهل به.
قال معاذ: لا شك عندي في أن الدافع لك إلى كل ذلك هو ولاء مطلق للإسلام وحب له ورغبة في أن تهتدي البشرية جمعاء بنوره وتسعد باتباع نهجه، ربما كان ذلك لأنني أعرفك جيدا، ولكني لا أعتقد أن أحدا من الناس يعرفك غيري، وربما يهاجمونك بضراوة.
قال وجدي: إنهم يفعلون ذلك فعلا، وها أنت قد أقررت بذلك بخطورة التمذهب وبضرورة الليبرالية والعلمانية، إنها ستحمي الناس من وحوش المذهبية.
قال معاذ: ومع كل ذلك، ألا ترى وجوب التأسي بالسلف الصالح؟ قال وجدي: وإذا كان سلفك الصالح قد اختلفوا وتقاتلوا وضرب بعضهم رقاب بعض –رغم كل الأوامر القرءانية والتحذيرات النبوية- وإذا كانوا قد فرَّقوا الدين وسارت كل فرقة في طريق مختلف عن الأخرى كيف ستتبعهم جميعا؟ إنك ستتمزق إذًا، أما من بعد تفريق الدين فقد صار لكل فرقة سلفها الذي تعتبره صالحا، وإذا قلت أنت أن فرقتك هي الفرقة الناجية فهذا ما يدعيه كل إنسان لنفسه منذ أن ظهر هذا الكائن الخطرُ وخطرَ على سطح هذا الكوكب، وليس من المعقول أن يدور الحق مع آبائك ومعك أنت حيث داروا أو درت، بل عليك أنت أن تبحث عن الحق وأن تدور معه حيث دار.
التفت إليه فجأة وقال: قل لي، لماذا أصبحت أنت سلفيا؟
أُخِذ معاذ، لم يستطع أن ينطق بحرف، انتابته شتى المشاعر، لم يتركه وجدي، بل عاجله بمجموعة من الأسئلة:
هل قمت بتمحيص مقولات مذهبك ومقارنتها بكل مقولات المذاهب الأخرى؟ هل ثبت لديك يقينًا أنك على الحق؟ ما هي البينات التي أدركتها أو علمتها في حياتك لتؤكد لك ذلك؟ وما هي تجاربك الشخصية التي تجعلك على يقين من أن مذهبك هو الحق؟
أدرك وجدي أن أسئلته تهوي كالمطارق على رأس صديقه، هما الاثنان يعلمان كل شيء عن هذا الأمر، لم ينتظر أن يسمع ما يعرفه.
أردف قائلا: لقد اتخذ المتمذهبون أئمة مذاهبهم أربابا من دون الله وجعلوا لكلامهم التقدم على كلامه، وحيث أن عبدة الأوثان البشرية وأتباع المذاهب المحرفة سيرفضون بكل قوة الإيمان بالإسلام دين الحق فلا بديل عن نظام ليبرالي يضمن للناس حرية الرأي والفكر والعقيدة فتتصارع الأفكار وتفوز الأفكار الأصلح والأنفع للناس أو على الأقل لا يتم وأدها أو التنكيل بمن يدعو إليها، وبذلك سيتفوق الإسلام الذي هو دين الحق المطلق، فالحق هو أقوي من الباطل، وبذلك يتحقق الوعد الإلهي بظهور دين الحق على الدين كله.
إن الممارسة العملية للإسلام الحقيقي على مستوى الدولة الآن تعني إقامة نظام ليبرالي يقدس حقوق الإنسان ويتمسك بسيادة القانون ويحقق العدالة ويرفض كل أنواع التسلط الإجرامي ويعتبر الرجعية العدو الطبيعي للناس ويملك صيغة فعالة لتحقيق التقدم.
ألا ترى معي أن النظم العلمانية الليبرالية السائدة الآن في الغرب هي خير النظم التي يمكن للمسلمين أن يتعايشوا معها ويحققوا مقاصد دينهم العظمى، ألم تر أن شياطين الإنس والجن لم يتوانوا عن استخدام عبيد المذاهب الضالة المحسوبة على الإسلام ضد هذه المجتمعات مما جعلهم يندفعون نحو تقييد حريات المسلمين وقد يدفع بهم ذلك إلى الردة جزئيا أو كليا عن علمانيتهم، وعندها ستدفع البشرية كلها الثمن غاليا.
قال معاذ: ولماذا لا نتبع الإسلام الحقيقي الذي تنادي أنت به؟ قال وجدي: ذلك لأن الإسلام الحقيقي مجهول وغريب ولا يجد له أنصارا، أما ما هو موجود على الساحة الآن فهو –كما أصبحتَ تعلم الآن- المذاهب التي فرقوا إليها الدين وحلت محل الإسلام الحقيقي دون أن ترقى أبدا إلى مستواه، وتلك المذاهب ليس لديها حل لأي مشكلة، بل هي من المشاكل التي ابتليت بها الأمة وكادت تقضي عليها، والأمر المؤكد هو أن الرسول بريء منهم جميعا، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} الأنعام159.
ولن يتخلى أكثر الناس عما ألفوا عليه آباءهم، وهم سيعتبرون دين الحق مجرد مجموعة آراء أو مجرد مذهب جديد، وقد يعتبرونه بدعة او ضلالة.
وأعتقد أنك بعد أن علمت أنه ليس من حق أحد المذاهب أن يدعي أنه هو الإسلام الحقيقي فإنك علمت بالضرورة أنه ليس من حق أي حزب أن يدعي أنه الممثل الشرعي للإسلام أو أن حلوله المقترحة للمشاكل هي الحلول الإسلامية.
عندئذ قال له معاذ: أنصحك ألا تجهر بذلك الآن!
قال: وهل تخلصنا من دكتاتورية وطغيان مبارك ليحل محله غيره، هل يجوز في الإسلام أو في الديمقراطية أنك بمجرد انتقادك لأحد الأحزاب تتلقَّى لتوِّك هجوما كاسحا من أتباع هذا الحزب وينهال عليك النقد والتجريح وتعامل على الفور وكأنك كافر مرتد ويتطوع من لا يعرفون شيئا يعتد به عن الإسلام ليلقنوك دروسا فيه!!! وقديما ظنَّ الخوارج أنهم المسلمون الحقيقيون ورموا الإمام علي –أعلم أهل الأرض بالإسلام من بعد الرسول- بالكفر وقتلوه ظلما، وظلوا حربا على المسلمين إلى أن انقرضوا، وبالطبع لقد اقترف هؤلاء بمسلكهم هذا أكبر كبائر الإثم ولن يفلتوا من عقاب الله تعالى، ومنذ أن استولى الأمويون على مقدرات الأمور في الأمة فقد حكمها مجموعة من أفجر وأطغى وأظلم الحكام، ومع ذلك كانوا يدعون لأنفسهم ويدعي لهم المنافقون والمداهنون أنهم ظل الله تعالى على الأرض وخلفاء الرسول.
إنه يجب أن يعلم الجميع أن الإسلام الذي هو دين الحق لا يتحمل وزر المحسوبين عليه ولا وزر من يدعون أنهم سيحكمون باسمه، وهم إن أخطئوا فسيضاعف لهم العذاب لخطئهم في حق الإسلام وتشويههم لصورته.
أخذت وجدي حدته وارتعشت شفتاه وهو يصرخ في صاحبه: إن السفلة هم المتكسبون بدينهم أما سفلة السفلة فهم من أضاعوا دين أنفسهم في سبيل دنيا غيرهم، أما شر البهائم فهم من يصنعون بأنفسهم وثنا ثم يعبدونه ويمكنونه من أنفسهم يفعل بهم ما يشاء، إنه على الإنسان إذا أراد أن يحيا حرا كريما أن يؤمن بأنه لا إله إلا الله وأن يعيش وفق هذا الإيمان، أما كفاكم ما حاق بتلك الأمة من كوارث بسبب تمسكم بمذاهب ضالة مستحيلة؟ هل تنتظرون الداهية العظمى والقارعة الكبرى؟ إنكم إن لم تتبعوا دين الحق فلن تضروه شيئا بل سيتبعه غيركم.
قال معاذ: ألا ترى معي أنه يجب التركيز على الخطوات الإيجابية بدلا من هذا الجدال الذي لن ينتهي ولا يمكن أن يتمخض عن نتائج إيجابية، ما رأيك في الآليات المناسبة لتطبيق الشريعة وهذا مطلب شعبي؟
قال معاذ: اعلم أولا أن إيمانكم المحض بأن الأوائل لم يتركوا للأواخر شيئا هو سبب المشكلة، والأخطر أنه يتضمن كفرا بالأسماء الإلهية وتكذيبا للقرءان وللرسول وشركًا ظاهرا، ولا شك أن أصغر طفل يعلم الحقيقة التي تحدق في وجوهكم وترفضون رؤيتها؛ إن الأوائل تركوا في الحقيقة الكثير والكثير جدا للأواخر ليكتشفوه ويعلموه، والأدهى والأمرّ أنهم تركوا لهم كوارث لا يمكن القضاء عليها إلا ببذل الكثير من التضحيات، على كل حال اعلم أن الآليات الحديثة لتطبيق القانون وتشديد الرقابة وضمان الشفافية مثلها مثل الأسلحة الحديثة، فكما لا يمكن مقاتلة الأعداء الآن بالسيف والرمح وعلى ظهور الخيل فكذلك لا يمكن تقوية بنيان الأمة وإعمال القانون وتطبيق العدالة وإدارة أمور الأمة بأساليب العصور الوسطى.
إنه يجب أولا وقبل كل شيء تعريف المراد بالشريعة طبقا للمصطلح القرءاني خاصة وأن الناس بسبب جهودكم الحثيثة أصبحوا يظنون أن الشريعة هي مجرد أشكال العقوبات المقررة على المخطئين والمجرمين في بعض الأمور المحددة وهي ليست كثيرة، هل تعتقد أن هذا الاختزال وهذا التحريف كانا عبثا؟
قال معاذ: وما هي الشريعة في نظرك إذًا؟ قال وجدي: الشريعة هي القرءان نفسه مترجما ومفصلا إلى أنساق من الأوامر الملزمة لكل كيان إسلامي.
قال معاذ: ومن قال بمثل قولك من السلف؟ ضج وجدي، صرخ في وجه معاذ: أبعد كل هذا الجدال توجه إليَّ مثل هذا السؤال؟ ولكنه لم يجد خيرا من أن يكظم غيظه، إنه هو الذي سعى إلى مثل هذا الجدال.
ظل كل منهما متمسكا بموقفه وآرائه، كان لابد لوجدي من حسم الأمر وتسجيل موقف، قال: إن النظام الإسلامي الحقيقي هو أفضل النظم، ولكنه مجهول وغريب ولا يعرفه الآن إلا الصفوة من أولي الألباب، أما ما هو موجود على الساحة الآن فهو المذاهب والشيع التي فرقوا إليها الدين وحلت محل الإسلام الحقيقي منذ الانقلاب الأموي الإجرامي الذي قضى على خير أمة أخرجت للناس.
إنه لولا تضحيات أناس من أنبل الناس لتحقق للأمويين المخطط الذي رسمه لهم المنافقون من أهل الكتاب في الشام وغيرهم ولقضوا على الإسلام ذاته، ولكن النجاح الجزئي لمخططهم هو الذي حوَّل الأمة الخيرة الحرة إلى تراث يتوارثه ويتلاعب به غلمان بني أمية ومن جاء من بعدهم، وتلك المذاهب ليس لديها حل لأي مشكلة بل هي من المشاكل التي ابتليت بها الأمة وكادت تقضي عليها ولا يوجد تقريبا أي أمل في الخلاص منها، لذلك فإن أفضل الصيغ لمصر الآن: هوية إسلامية عربية + دولة مدنية + نظام ليبرالي + حرية عقيدة ورأي وفكر وإعلام + منظومة قيم دينية سامية + حقوق مواطنة + سيادة القانون + نظام تعليم متقدم + احترام حقوق الإنسان + عدالة اجتماعية، تلك الصيغة هي التطبيق العصري الممكن الآن للنظام الإسلامي، أما النظم الأموية أو العباسية أو العثمانية أو السعودية أو الطالبانية أو الصومالية فمن المعلوم بالضرورة أنها ليست نظمًا إسلامية ولكنها بالأحرى جرائم ضد الإنسانية.
قال معاذ: ألا ترى أي خير في المذاهب؟ قال له: من قال ذلك؟ لقد سبق أن قلت لك إن الحق والباطل موزعان على كافة المذاهب بنسب متفاوتة، ولذلك من الخطأ أن يزعم أي مذهب أنه الحق المطلق، ولكنه مضطر للأسف ليزعم ذلك، وهذا هو التناقض القاتل، إن هدف عملاء كل مذهب هو الحفاظ علي كيانه ومقولاته وكرامة أسلافه وكهنوته مع استمرار الزعم بأنه المذهب الصحيح الوحيد وأن كل ما عداه باطل وأن كل من خالفه في النار وأن قطيعه هم الفئة الناجية كما زعم بنو إسرائيل من قبل، فانتماء المرء لمذهبهم هو الذي يضمن لصاحبه الجنة مهما ساء عمله، أما من ينتمي لأي مذهب آخر فلن يجديه أبدًا حسن عمله، وهكذا يظن أتباع كل مذهب أن رب العالمين هو ربهم الخاص الذي لا هم له إلا السهر علي راحتهم وإهلاك أعدائهم، إن هؤلاء إنما يحاولون القضاء على الوجه العالمي للإسلام باستنزاله إلى مستوى تقاليدهم وتقييده بأوهامهم وتصوراتهم، إن من كبائر الإثم امتداح المتمذهب لرأيه أو لمذهبه وتزكية أتباعه على غيرهم.
أراد معاذ أن ينتزع منه اعترافا يرضي غروره، قال: ولكنك عشت معظم عمرك سلفيا، وأنت مدين للسلفية بتمسكك بالتوحيد الخالص الذي عصمك من اتباع المضلين والمشركين، ألا يتضمن ذلك إقرارا منك وبرهانا على أن السلفية هي أفضل المذاهب؟ قال:
أما السلفية فهي ليست بفضيلة بل هي مرض نفسي واجتماعي، كما أنها خطيئة دينية، فالمؤمن مأمور باتباع ما أنزل الله تعالى وبأن يتدبر القرءان وبأن يعمل فيه ملكاته الذهنية، والآيات التي تأمر بذلك عديدة، أما من سلف من المؤمنين فكل ما هو مطلوب من المسلم أن يستغفر لهم وليس أن يتخذهم سادة أو أربابا من دون الله تعالى ولا أن يقيد نفسه بما انتهوا إليه وألا يزعم لأقوالهم صفات الكمال والديمومة، وأنتم تفعلون ذلك مهما تماديتم في الإنكار.
وثق أنك لن تُسأل عن أحد من السلف الصالح أو الطالح يوم القيامة ولكنك ستسأل عن عقيدتك الفاسدة التي تتضمن أخطاء جسيمة في حق الله تعالى، وستُسأل عن أخطائك في حق كتاب الله ورسوله والمؤمنين والسابقين الأولين.
قال له معاذ محاولا تغيير مجال النقاش: ألم تفكر في المذاهب الاقتصادية؟ قال: بلى فعلت، قال: أيهما أقرب إلى الإسلام؟ الاشتراكية أم الرأسمالية؟
قال وجدي: في الحقيقة يتضمن الإسلام أفضل ما في النظامين، والرأسمالية هي نظام وحشي شرس، وهو لا يترك إلا هامشا محدودا للإنسان ليمارس ما يتصور أنه الحرية، وهو محكوم عليه بالانهيار، والذي حمى النظم الغربية مما حاق بالنظم الماركسية هو أخذهم بكثير من المذهب الاشتراكي، هذا بالإضافة إلى التقدم العلمي والتكنولوجي وأسباب تاريخية أخرى، منها نهبهم القديم السافر لثروات الشعوب، ونهبهم الحديث والمستمر والمستتر لها أيضا بنظامهم المالي الدولي.
وقد كان لدى مصر الناصرية صيغة حقيقية تصلح لصناعة التقدم، ولذلك تعرضت لتآمر من أخس وأحقر القوى التي ظهرت على مدى التاريخ؛ الصهيونية العالمية والإمبريالية الغربية والرجعية العربية، ولو أمكن للنظام الناصري الاستمرار لأصبحت مصر من الدول العظمى.
قال معاذ: ولكن لماذا فشلت اشتراكية عبد الناصر؟
قال وجدي: ليس ذنب عبد الناصر، بالنظر إلى الظروف الواقعية؛ فالنظام الاشتراكي محكوم عليه أيضا بالفشل الذريع في البلدان المحسوبة على الإسلام، الناس في الشرق برمجوا منذ فجر التاريخ على أن يستمدوا قيمهم من الدين، وهم قد ألفوا أن يفوضوا أمر هذا الدين إلى من يزعم أنه يمثله من الكهنة والسدنة والحركات السياسية المتأسلمة التي ظهرت في هذا العصر، ولكن هؤلاء بالذات هم ألد أعداء الإنسانية والتقدم، والتقدم عندهم هو امتلاك السلطة التي يقهرون بها الآخرين! وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليهم خاصة وأن الحركات المتأسلمة اعتمدت سياسة الاغتيالات كوسيلة مقدسة للتعامل مع خصومهم وأوهموا القطعان التي تتبعهم أن هذا هو الطريق إلى الجنة!!! ودخلوا في صدامات دامية مع السلطة، وبالتالي كان على السلطة أن تبطش بهم بلا رحمة، ولكن المشكلة أن كل مسلم ملتزم سيصبح بذلك موضع ارتياب لدى السلطة، ويؤدي كل ذلك إلى انصراف الناس عن الدين بل والتباهي بتجاهله عمدا.
وبذلك لا يتبقى للسلطة إلا رقيقو الدين.
ولا يمكن أن يؤتمن من هو معدوم الدين والضمير على مصير مؤسسات كبرى هي ملك للأمة جمعاء بينما يكون مرتبه الرسمي ضعيفا، لقد كانت المعضلة التي واجهها عبد الناصر كيف يمكن إدارة أمور الأمة التي تستلزم كل أمانة ونزاهة وزهد بواسطة من تحلقوا حوله من الفاسقين والجهلة والمنافقين والفاسدين ورقيقي الدين، كيف يمكن إعداد أناس على أعلى درجة من الخلق الرفيع في بلدٍ كمصر بمعزل عن الدين؟ ولم تكن توجد صيغة دينية صالحة لتحقيق التقدم وللرقي بنفوس الناس، هذا فضلا عن تآمر كل قوى الشر ضد نظامه.
قال معاذ: لم أرك تذكر الديمقراطية، حدثني عن رأيك عنها.
قال وجدي: إن الديمقراطية لا تصلح إلا كوسيلة للتعايش السلمي بين مراكز قوى ونفوذ متعددة ومتدافعة ومتناقضة في دول لديها آليات لمتابعة التقدم ورعايته ويتوفر لشعوبها القدر اللازم من الرقي والوعي، ولكنها لا تصلح لتحقيق طفرات تقدمية، ولا حاجة إلي الديمقراطية الغربية في شعوب تملك صيغا للتعايش السلمي بين مراكزها وطوائفها المتعددة أو تتسم أصلاً بالتجانس، ولا جدوى من الديمقراطية إذا كانت هذه الطوائف طوائف دينية أو مذهبية أو عرقية أو لغوية بحيث توجد أغلبية كاسحة وأقليات متعددة كما هو الحال في معظم الأحيان، ولكن المطلوب هاهنا هو نظام يؤمن بسيادة القانون ويحترم حقوق الإنسان ويملك صيغة فعالة لتحقيق التقدم، إن محاولة افتعال نظام ديمقراطي في بلد لا حاجة له به ولا جدوى من تطبيقه فيه لن يزيد الأوضاع إلا سوءا، فسيؤدي ذلك بالضرورة إلي ظهور أحزاب مفتعلة وإلي إحداث انقسامات وإلى استهلاك طاقات الأمة في تمزيق نفسها وتكريس مشاكلها، وبالطبع سيوجد من يسيء استغلال مشاعر الناس الدينية ومن سيتلقى أموالاً من كافة القوى الأجنبية لتمويل حملاته الانتخابية وسيوجد من يسخر الناس للعمل ضد مصالحهم الحقيقية.
إن الشعوب الجادة التي تريد تحقيق طفرات تقدمية لا يجوز أن تكون مجالا للتجربة والخطأ، إن الخلافات الحزبية والمهاترات البرلمانية هي وسيلة لاستنفاد طاقات الناس الخلاقة وإهدارها عبثا، وها هم الآن يتبارون في إبداع النكات والملح للتندر على بعضهم البعض والسخرية واستعراض البذاءة والسفالة والكيد والتآمر، تخيل ماذا يمكن أن يحدث لو وجهت كل تلك الطاقات نحو الإبداع وإيجاد حلول للمشاكل وإحداث طفرات تقدمية وتطهير النفوس من المنظومة الشيطانية المتسلطة عليهم والتي تدفعهم إلى التهافت على جهنم كما يتهافت الفراش على النار.
أما من يسمون أنفسهم بالإسلاميين فهم أخطر شيء على الإسلام، وهم ينادون بإحياء نظام الخلافة دون أن يعلموا عنه شيئا يُعتدّ به، وهم يرفعون شعار العودة إلى الإسلام بينما هم لا يعرفون إلا تلك المذاهب والأساليب التي ثبت فشلها على مدى العصور وألقت بتلك الأمة في غياهب الجهل والانحطاط والتخلف، ولو خضع محمد علي لتسلط المشايخ لما حقق لمصر شيئا ولظلت ولاية عثمانية متخلفة إلى زمن نشوب الحرب العالمية الأولي كما حدث مع دول المشرق العربي.
قال معاذ: إننا نحن السلفية أصبحنا نقر بأنه لا يوجد بديل للديمقراطية الآن، فكيف تقول أنت بذلك؟ وما هو البديل إذًا؟
قال وجدي: بلى يوجد بديل؛ الإسلام الحقيقي وليس مذاهبكم، ولكل ما ذكرناه من قبل، فهذا البديل غير متاح الآن، ويوجد بديل آخر؛ نظام شمولي يملك صيغة إنسانية تقدمية، أما في ظل ما قلناه من ضرورة النظام العلماني الليبرالي الآن فلا غنى عن الديمقراطية، في الحقيقة إن الديمقراطية والليبرالية والعلمانية منظومة واحدة متماسكة، فالممارسة الحقيقية للديمقراطية تستلزم كلا من الليبرالية والعلمانية بمعانيهما الصحيحة، ولكن للأسف أثبت من ينتحلون لأنفسهم هذه الصفات إنهم يظنون أن الليبرالية والعلمانية تعني تغيير هوية مصر الإسلامية العربية وتمييع الانتماء الإسلامي والانبطاح أمام القوى الصليبية والصهيونية والانحياز إليهم ضد الإسلام والمسلمين وضد مصلحة مصر، هذا فضلا عن أنهم أثبتوا إفلاسهم الخلقي والمعنوي، وفي الواقع هم لا يؤمنون بأية ديمقراطية بل يريدون فرض رأيهم وأنفسهم على الناس بكافة الوسائل.
وأكرر من جديد أن الديمقراطية على النمط الغربي هي وسيلة لاستهلاك طاقات الأمة وجعل بأسهم فيما بينهم، وهي لم تصنع التقدم يوما ما في أي مكان ولن تصنعه أبدا في أي مكان، وأفضل ما فيها هو الآليات الرقابية، ولكن كل مزاياها يوفرها النظام الإسلامي الحقيقي كما يقي الناس شرورها، إن الديمقراطية تعني اتخاذ قوة عمياء هي الأغلبية العددية إلها من دون الله أو على الأقل إلها مع الله، وتلك الأغلبية لم تكن يوما ما مع الحق، بل كانت دائما قوة من قوى الباطل، ولكم تحداها بقوة الحق الصفوة من الأنبياء والرسل والعلماء والفلاسفة والمجددين والمصلحين فانتصروا ولكن بعد تضحيات جسيمة.
إن الديمقراطية على النمط الغربي ليست هي الحل الأمثل لبلاد تجذر فيها الجهل والتخلف والمذاهب الضالة واللاإنسانية، إن أتباع هذه المذاهب سيزعمون أنهم المتحدثون الرسميون باسم الدين وسيستغلون عاطفة الناس الدينية للاستحواذ على السلطة، ثم يرتدون بالبلاد إلى العصر الحجري.
ويحاول البعض عبثا أن يورط الإسلام فيما يسمى بالديمقراطية، والحق هو أن الديمقراطية تجعل السلطة للأكثرية في حين لم ترد في كتاب الله تعالى أية آية تمتدح الأكثرية، فالأكثرية دائما مذمومة في القرءان، أما السابقون المقربون وأصحاب اليمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات فلقد نصَّ القرءان بكل وضوح على أنهم أقلية، ولقد بيَّن القرءان كيف أن كل إصلاح كان يبدأ برجل واحد هو الرسول ولا يؤمن به إلا شرذمة قليلون، ويظل هؤلاء يعانون من شرور وجهل أقوامهم إلى أن ينصرهم الله تعالى ويهلك أعداءهم.
ورغم ما في النظام الليبرالي العلماني من المزايا فإنه لن يحقق لمصر إلا مجرد البقاء والتعايش السلمي بين الطوائف المختلفة، هذا إذا وجدت من يجيد تطبيقها، ولكن الإسلام الحقيقي وحده الذي هو دين الحق هو الذي يمكن أن يحقق لمصر الطفرة الحضارية والمجد والقوة على كافة الأصعدة، إنه لا يجوز التفريط في كل ذلك إرضاء لألد أعداء مصر، أما المحسوبون على التيارات الليبرالية والعلمانية فقد أثبت معظمهم للأسف أن ما يحركهم هو العداء الدفين أو الصريح للإسلام وللإسلام فقط هذا إلى جانب افتقارهم إلى منظومة قيم وأخلاق يتمثلون بها، لقد أساءوا بانحطاطهم وسفالتهم إلى الاتجاه الليبرالي العلماني، ولكن كل تيار سياسي آخر سيجد نفسه مضطرا للأخذ بهذا الاتجاه!!
قال لصاحبه وهو يحاوره: أتدري ما هو أكبر الآثام وهو في نفس الوقت أخطرها على الناس الآن وفي كل آن؟ إنه الظلم؛ فاقتراف الظلم يؤدي إلى التدهور السريع لنفس الإنسان وقلبه، وبالمداومة على اقتراف الظلم قد تمسخ هذه النفس إلى وحش ضار أو إلى شيطان مريد فلا يستطيع هذا الإنسان التوبة فتسوء خاتمته ويبعث هكذا يوم القيامة، فلابد من السعي لتحقيق العدل، ولابد على المستوى العام من تحقق العدل التام، ولكن أكثر الناس لا ينظرون إلا إلى هذه الحياة الدنيا ويطالبون بتحقق العدالة فورا فيها، وهم لا يأخذون أمر الآخرة بالجدية اللازمة، وهم في الحقيقة يسيئون الظن بربهم ولا يؤمنون بأنه سيحكم فعلا بين الناس بالحق، ولقد أعلن الله تعالى مرارا وتكرارا أن الفصل التام بين الناس لن يكون إلا في يوم الدين وأن الدنيا هي دار ابتلاء، وهذا الابتلاء يقتضي وجود الظالمين، ذلك لأن الله تعالى يبتلي الناس بالناس.
كان وجدي يتابع حواراته مع معاذ مع تقليب الفكر في كافة الأمور وممارسة مقتضيات العبادة، لقد وجد نفسه دائما ملزما بالاستمرار في القيام بواجبه تجاه وطنه الذي أحبه من كل قلبه، نعم إنه أدرك أنه لا يمكن أن يتكسب بالثورة ولا بالوطنية، كذلك أدرك أنه لا يمكن أن ينتمي إلى أي حزب سياسي ولكنه رأى أن من حقه بل ومن واجبه أن يتصدى لكل من بدأ يعبث في وطنه المقدس.
وهو كدارس جيد للتاريخ أدرك أن شياطين الإنس والجن لن يتركوا وطنه وشأنه، ولقد برز دعاة الفتنة والتخريب تحت شتى المسميات، كان منهم بعض رفاقه في الميدان، ومنهم بعض المنتمين إلى التيارات التي استشعرت حتمية هزيمتها في الانتخابات وانصراف الناس عنها، ومنهم الخونة المستترون، ومنهم الجهلة والغوغاء والحثالة الذين يمكن شراؤهم بالزهيد من المال، ومنهم من اكتسب الإحساس بالأهمية ويخشي من عودته إلى حجمه الحقيقي، ومنهم رجال ونساء الإعلام أو بالأحرى التضليل الذين يحصدون الأموال الطائلة لقاء تأجيج الفتن وإثارة الاختلافات والاتجار بمعاناة الناس.
ومن المفارقات التي لا حظها أن أشد الناس عداء لمبارك هم أشبه الناس به من حيث الشخصية، فهم يجمعون مثله بين العناد والحماقة والجهل والغطرسة الكاذبة والسفالة والرذالة والاستبداد وازدراء الآخرين وعدم التسامح مع الرأي الآخر وانعدام الخلق وانعدام الضمير وانعدام الوازع الديني حتى وإن كانوا ينتمون إلى التيار الديني.
لقد أدرك سبب المأساة، إن الأمة التي تغفل عن قطاع هائل من أبنائها وتتركهم هملا لا يجدون من يلقنهم قيمها ومثلها إنما تجعل منهم قنابل موقوتة، لقد ظل نظام مبارك يحارب الإسلام مصدر القيم الحقيقي للمصريين ويشجع ويرعى كل انحراف عنه، إنه بحجة تجفيف منابع الإرهاب شنَّ نظام مبارك الحرب على الإسلام استرضاءً للصهاينة اللئام، وهكذا خلف وراءه قطعانا قد خسروا الدنيا والآخرة، هم خطر على البشرية قبل أن يكونوا خطرا على مصر، وها هم يحاولون العودة بمصر إلى العصر الحجري، إن هؤلاء ليس لديهم أدنى إحساس بأية مشاعر إنسانية رفيعة، ولا يحركهم إلا حقد مرير وكراهية عميقة لكل ما كان يشعرهم بالنقص والدونية، وهم يشعرون الآن بنشوة لا توصف وهم يمارسون تحطيم وتدمير كل شيء والتطاول على الآخرين، خاصة وقد وجدوا كثيرا من الأفندية والمثقفين ينافقونهم ويتملقون سفالتهم وانحطاطهم ويسلطونهم على دينهم ووطنهم، وقد وجدوا أيضا من يمولونهم ومن يسدون لهم حاجاتهم البهيمية، إن من يعاني من عيب خطير مخزي لا يستطيع الخلاص منه سيسعده بالطبع وجود من يثني على عيبه هذا أو من يجعل منه حقا من حقوق الإنسان أو فضيلة إنسانية؛ فهو بذلك يسترد له كرامته.
أيقن بأن الجهلة هم الآلات الطبيعية الطيعة في يد كل طاغية فاجر؛ فبسواعدهم يضربهم وبأفواههم يمتص دماءهم وبأيديهم ينهب أموالهم وبأقدامهم يدوس أعناقهم ويطأ ملاغمهم وبأرجلهم يسحق رءوسهم وبالسياط المصنوعة من جلودهم يجلدهم وبأموالهم المنهوبة منهم يمتهن كرامتهم ومن ثمار كدهم وكدحهم يمن عليهم، وهم من بين يديه كالكلاب المسعورة على من يشاء يسلطهم، وهم أيضاً كالكلاب يستقبلونه دائماً بنباح الفرح ويبصبصون بأذنابهم ويظهرون أعظم الفرح بالعظام التي يلقيها عليهم، كما أنهم هم الآلات الطبيعية الطيعة بيد كل خائن متآمر أو حاقد فاجر، فالخونة الفجار يعرفون جيدا كيف يستعملونهم ضد الصفوة من الناس، وكم حركوهم من قبل ضد الأنبياء والمصلحين وضد أنفسهم.
كان قادة الفتنة وعملاؤهم الجبناء يستقوون على الناس بكل القوى الخارجية، إن مصر هي قلب العالم ولها أهميتها الهائلة، إن كل قوى الشر والظلام والحقد الأسود لا تريد أن ترى مصر قوية حرة، أجاد هؤلاء استغلال كل ما هو صالح لتأجيج الفتن، ما إن يتمكن الناس من إخماد فتنة إلا ويبدأ عملاؤهم في إيقاد نيران غيرها، إن الفوضى والعبثية بدأت تضرب بأطنابها في البلاد، إنه يعلم تماما أن الشغل الشاغل لأي نظام جاد ينبغي أن يكون توفير كل ما يلزم لحفظ الأمن والنظام وتدعيم الانضباط وسيادة القانون وتقوية مؤسسات المجتمع المدني وضمان حرية الفكر والتبادل الحر للآراء والمعلومات ودعم حرية الصحافة والإعلام واتخاذ كل ما يلزم للرقي بالناس علي كافة المستويات ولحمايتهم من شرور أنفسهم ولعدم السماح لهم بتبديد طاقاتهم وأوقاتهم ومواردهم.
كان أكثر ما روَّعه هو اشتداد الهجوم على جيش مصر ومحاولة تشويه سمعته واستدراجه إلى صدام مع الناس.
وقف ليصرخ في غرفته: إن الجهلة هم الآن أخطر على أنفسهم وعلى وطنهم من الخونة والمفسدين بل ومن ألد الأعداء، لو كان الجهل رجلا لوجب قتله.
بدأ حملة على مواقع التواصل الاجتماعي لكي يشرح للناس حقائق الأمور، ساهم في فضح وكشف دجل وألاعيب الكثيرين من المتجرين بالثورة، تعرض لحملة ضارية من الشتائم البذيئة، حاول الكثيرون اغتياله معنويا، ولكن بدأ بعضهم يتجاوب معه، بدأت الحملة تؤتي أكلها، أخذ يتساءل مع الكثيرين هل تخلصنا من دكتاتورية مبارك الأحمق الجاهل الخائن الفاسد لنعاني من دكتاتورية حشود الحمقى والجهلة والخونة والمغفلين والمتكسبين بالثورة؟
أدرك أن الأمر أخطر بكثير مما يبدو للناس، لقد بدأ الدهماء والغوغاء تنفيذ أقذر الخطط الجهنمية ألا وهي استفزاز الجيش واستدراجه إلى الصدام مع باقي الشعب، كان هذا مما يفوق قدرته على الاحتمال، إنه منذ أن استقل ابن طولون بمصر صار هذا الجيش هو عدة الإسلام والمسلمين في قلب العالم الإسلامي، وهو الذي تصدى للزنادقة والصليبيين والمغول والوهابيين والعثمانيين والصهاينة، وهو الجيش الذي حطَّم كل من تحالف مع الصليبيين، إنه الجيش الذي ألقى بالصليبيين في البحر وحمى الحرمين من شرهم، وهو الجيش الذي أحرز أكبر الانتصارات على المغول والتتار في سلسلة حروب بدأت بعين جالوت، وهو الجيش الذي أخذ بثأر مصر والعرب والإسلام من الاحتلال العثماني الغشيم، وهو الجيش الذي أسس لمصر إمبراطورية في عهد إسماعيل وصلت إلى منابع النيل في عمق أفريقيا كما استولى على كل الساحل الغربي للبحر الأحمر، وهو الجيش الذي ساند كل ثورات التحرر في العالم كله، إنه الجيش الذي اجتمعت كل القوى الكبرى مرةً بعد أخرى للعمل على تحجيمه ولإصدار (الفرمانات) اللازمة لذلك، كان ذلك في عهد محمد علي، تكرر ذلك بعد عهد الخديوي إسماعيل أي في عهد توفيق، تكرر أيضًا في عهد السادات.
وفجأة خطرت له فكرة جريئة، لماذا لا يذهب إلى موقع الاشتباكات بين قوات الجيش التي تتولى الآن حفظ الأمن وبين فرقة قاذفي الحجارة ليؤدي واجبه الجهادي؟ أحس بخطورة الفكرة، ولكنه قال لنفسه بالتأكيد سأجد هناك بعض رفاقي في التحرير وسنشكل تيارا يسعى للحفاظ على مصر، وإن اقتضى الأمر سنشكل حاجزا بشريا بين الطرفين أو نعتصم هناك لنقضي على إمكانية حدوث أي اشتباك من بعد.
كان يدرك خطورة الأمر، ولكن أخذت الفكرة تشتد وتقوى في نفسه إلى أن اكتسحت كل ما هو أمامها من المحاذير والتحفظات واستحوذت عليه تماما، لم يعد في الحقيقة ملك نفسه، اختلف كل شيء أمامه عما ألفه، منذ تلك اللحظة التي عقد العزم فيها على الذهاب إلى موقع الاشتباكات أصبح شبه مُراقِب لما يُفعل به، أخذ يعدّ العدة لما يجب عمله، رتب ما يجب قوله، قضى ليلته قائما يصلي، وجد نفسه في الصباح يكاد يودِّع أسرته الصغيرة التي لم تنل من اهتمامه طوال حياته الكثير، قال لنفسه: "لا بأس! لن ينساهم ربهم".
وجد نفسه يذهب إلى ميدان التحرير، استعاد هناك رباطة جأشه، استعاد من جديد عبق الحرية الفريد، أسكره من جديد عطرها، أخذ يحرض المتظاهرين هناك على الذهاب معه إلى موقع الاشتباكات، استجاب له بعضهم، وصل ليجد كائنات بشعة تقذف جنود الجيش بالحجارة وتقذفهم بما هو أشد وقعا منها من شتائم واتهامات وإهانات.
يبدو أنه لم يعد ينتمي إلى هذا العالم، لقد رآهم في صورة شياطين تتقافز كالنيران المضطرمة وتنظر إلى الإنسان عدوهم اللدود بكل حقد وازدراء ورغبة في الانتقام، رأي من خلفهم الشيطان الأكبر رافعًا راية كأنها قدت من عين الجحيم، لطالما رآهم في أخطر كوابيسه يريدون أن ينقضوا عليه ليمزقوا جسده بمخالبهم، أدرك عندها أنه لا فائدة، لن يرتدع هؤلاء إلا من بعد أن تحيق بالبلد كارثة، اندفع ليصرخ: كفُّوا أيها المضللون، استدار فريق من هؤلاء نحوه ليرجموه، قبل أن يصله أول حجر كان قد تلقى رصاصة قاتلة اخترقت صدره وخرجت من الجانب الآخر، هُرع إليه من جاءوا معه من التحرير وحملوه بعيدا.
رأى وهو يحتضر مقعده من الجنة، اطمأن على مصير أسرته الصغيرة، علم أنه لن يفارقهم من بعد أبدا، وأنهم سيكونون في أمان تام، لقد ذاق الآن من الحرية التي عاش يحلم بها ما جعله يدرك أنه لم يكن من قبل حرا، علم أيضا أن كل مؤامرات أعداء مصر لن تفلح في تقويضها وأن مصر الجديدة ستكون حرة قوية عزيزة قائمة بالقسط مناصرة للحق مدافعة عن المظلومين والمستضعفين في الأرض ممثلة لأنبل المبادئ والمثل والقيم....
*******
1