نظرات في المذاهب
المذاهب التي حلَّت محل الإسلام
إنه لابد من نسق معرفي يمكن الاحتكام إليه عند النظر في أمر الأديان والمذاهب، هذا النسق قد يكون مذهبًا فلسفيًا أو منطقيًّا أو دينًا معينًا أو مذهبًا معينًا، فلا يمكن الاحتكام في الأمور الدينية إلى الفراغ مثلا، ونحن ننظر في أمور الأديان والمذاهب السائدة من حيث النسق المعرفي الخاص بدين الحق الذي سبق تقديمه وتبيينه.
ولذلك لكي يتضح المقصود بمصطلح المذاهب التي حلَّت محلّ الإسلام كان يجب أولا تقديم معنى مصطلح دين الحقّ.
فالمقصود باصطلاح المذاهب التي حلَّت محلّ الإسلام تلك المذاهب التي حلَّت محل دين الحقّ الذي سبق تقديمه، فهي ليست هو لأنها لا تمثله تمثيلا كاملا، وهي تختلف عنه في البنية وفي الأسس والمنظومات والعناصر والأمور وموازين الأمور والمصادر.
وهي حلَّت محله لأنها هي التي يعرفها الناس ويأخذون بها، بينما يجهلونه هو ولا يعملون بأكثر أوامره.
ولكونها حادت عن الدين الحق فقد اختلفت مصادرها كما اختلف ترتيب هذه المصادر فيما بينها، وبذلك فرق الناس دينهم.
ومما لا شك فيه أن تفريقَ الدين هو إثم من كبائر الإثم، ولقد نهى الله تعالى عنه، قال تعالى:
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} الشورى13.
ولقد أعلن الله تعالى في القرءان براءة الرسول من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} الأنعام159.
بل لقد أعلن الله تعالى أن الذين فرقوا دينهم الفرحين بما هم عليه من المشركين، قال تعالى:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{32}} الروم.
لذلك من اتبع مذهبًا جازما أنه الدين الصحيح لمجرد أنه ألفى عليه آباءَه هو ضال مشرك، وبالطبع يزعم أتباع كل مذهب أن لديهم الإسلام الصحيح، بل يزعم بعض عتاة المجرمين المتمذهبين أن من خالفهم من المسلمين هو أكفر من اليهود والنصارى!! ويبيحون لأنفسهم دمه، وهذا يكشف أنهم اتخذوا من سدنة مذاهبهم ومقولاتهم أربابًا من دون الله تعالى، فهم لا يعنيهم في شيء أن يكون أتباع المذهب الذي كفَّروه يؤمنون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر! فالمهم عندهم هو موقفهم ممن اتخذوهم أربابا حقيقيين ومشرعين، فهؤلاء الأرباب المزعومون هم بذلك أعز عندهم من الله وكتابه ورسوله ودينه!
والتشريع في الدين هو بالأصالة لله تعالى، فالشريعة تكون بالأمر الإلهي وبالجعل الإلهي، قال تعالى:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }الجاثية18، {....لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}المائدة48، {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} الشورى13، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الشورى21.
وبذلك فكل من ادعى لبشر سلطة التشريع الديني يكون قد أشرك بالله تعالى لكونه قد زعم شأنا وحقا إلهيا لمخلوق من مخلوقات الله تعالى.
وآية الشورى 21 تلمح إلى أن التشريع ممكن ولكن بالإذن الإلهي، ولا يكون ذلك بالطبع إلا لمن يتلقى الوحي بالطريقة الشرعية الرسمية مثل الأنبياء المرسلين، فالرسول كان مأذونا له بالاختيار لأمته في أمور العبادات العملية مثل الصلاة والحج فاختار الأيسر لأمته، ولقد أشار الرسول إلى ذلك بموقفه ممن قال في شأن الحج: "أفي كل عام يا رسول الله؟"، فأعرض عنه عدة مرات ثم قال ما معناه إن الحج مرة واحدة في العمر وأشار إلى إنه لو قال "نعم" لوجبت، وهذا التشريع يكون في إطار ما هو معلوم ومقرر ومذكور في القرءان.
ولكن بعد ختم النبوة لم يعد ممكنًا لأي مخلوق أن يأتي بقول أو رأي أو تشريع ثم ينسبه إلى الله تعالى، فكل رأي أو قول نتج عن استعمال الإمكانات الذهنية البشرية أو الآليات البشرية مثل الإجماع أو القياس أو الاستحسان أو الاستصلاح لا يجوز أن يعتبر تشريعا دينيا، وإنما تلزم طاعته من حيث وجوب طاعة أولي الأمر إذا كان صادرا عن أولي أمر حقيقيين، ولكن لا يجوز لأحد اعتبارهم مشرعين في الدين.
والحق هو أن أي إحداث في الدين يكون عادة على حساب جوانبه الجوهرية، وهذا ما حدث وأدَّى إلى نشأة المذاهب التي حلت محلّ الإسلام.
ولو مثلنا دين الحق بجهازٍ ما فأتباع أي مذهب لا يمكن أن ينتفعوا به حق الانتفاع، ذلك لأن كل مذهب استبعد منه بعض الأجزاء الأساسية أو حطم بعض الأجزاء الجوهرية كما استبدل ببعضها أجزاء أخرى من لدنه وأعاد ترتيب ما تبقى دون علم، هذا مع الحفاظ على بعض الشكل الخارجي وبعض المسميات، فلا يمكن للجهاز الناتج أن يؤدي دوره، ولا يمكن أن يقال إنه هو.
فلا يمكن لجهاز الكومبيوتر مثلا أن يؤدي دوره بعد انتزاع وحدة المعالجة المركزية، ولا يمكن لأحد أن يشتريه على هذه الحال على أنه جهاز كمبيوتر، وهذا ما فعله سدنة المذاهب عندما استبعدوا أركان الدين الجوهرية ومقاصده العظمى الحقيقية وجعلوا غاية همهم ضبط الأمور الشكلية الخارجية أو الانتصار لبعض الشخصيات التاريخية.
أما دين الحق فهو غريب ولا يتبعه إلا قليل من الناس، وقد يكون ذلك بدون علمهم، ومنهم هؤلاء الذين عقدوا العزم على الالتزام بكل أمر قرءاني وعلى التحلي بالتقوى ومكارم الأخلاق، ولم يخوضوا خوضا في محدثات المذاهب ولم يتعمقوا فيها بل نأوا بأنفسهم عنها، هؤلاء هم الذين سبقت لهم الحسنى.
*******
1