من الآيات المظلومة
آيتا سورة النحل 43-44
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{43} بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{44}
ما أرسل الله تعالى إلى الناس إلا رجالاً -أي من البشر- فهو لم يرسل ملائكة إلى الناس، فالرسول النبي يجب أن يكون رجلا من الناس، يحدثهم باللسان الذي يعرفونه، ويناله ما ينالهم من الأحاسيس والأذواق البشرية التي لا يمكن للملائكة أن يشعروا بها.
فالملك مثلا لا يشعر بالجوع أو العطش أو العجز أو الكسل أو اللغوب وغيرها من المشاعر والأحاسيس المرتبطة بالجسم الإنساني، فالرسل وسيلة معتمدة لرفع مثل هذه الأحاسيس إلى الملأ الأعلى، فتذوقها والإحساس بها –وليس مجرد العلم المحض بها- من لوازم الضبط النهائي للتشريعات، فلابد من علم وخبرة مترتبة على الأذواق والمشاعر الإنسانية، والعلم هاهنا بمعنى المعلومات، وليس السمة الإلهية الواجبة المطلقة اللانهائية.
فكما أن هناك تدبير وتفصيل عن أمر الله، هناك شفاعة وتشريع بإذن الله.
وفي العصر النبوي كان أهل الذكر المأمور بسؤالهم للتأكد والتيقن من حقيقة أن المرسلين من قبل كانوا رجالا هم علماء أهل الكتاب، والذكر والكتاب هي مسميات لما أنزله الله تعالى على الأنبياء، أما من بعد العصر النبوي فهم يشملون أيضًا وبصفة أساسية العلماء الحقيقيين من المسلمين، والعالم الحقيقي لا يمكن أن يكون قد تلقى العلم في مدرسة كهنوتية تقليدية، وكذلك كان الحال بالنسبة للأنبياء والمرسلين وأكابر الأولياء الصالحين.
والأمر بالسؤال هو لإقامة الحجة على من يتصورون أن المرسلين يجب أن يكون ملائكة أو كائنات غير بشرية بصفة عامة.
وهذه الآية تقتضي من الناس الآن أن يكونوا حقانيين موضوعيين فيما يتعلق بمن يأتيهم بجديد في أي مجال من المجالات بما فيها المجال الديني، فالناس عادة يميلون إلى رفض كل ما يأتي به المرسلون والمصلحون بسبب ما لديهم من الأوهام، ومنها:
1. أن الأسلاف يكتسبون عند الناس قداسة بالتقادم، وقديما كانوا يتحولون عند الناس إلى آلهة تُعبد عبادة حقيقية، فالمعاصرون للرسل يطالبونهم بالصورة الموهومة التي تكونت لديهم عمَّن خلوا من الرسل.
2. الناس يتخيلون أن المصلحين الدينيين يجب أن يكون ملائكة أو أشباه ملائكة، وهم يرفضون كلام المصلحين لأنهم يرونهم بشرا مثلهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وكلما ازداد إدراك الناس لبشرية المصلح كلما كانوا أكثر رفضًا له، فلا كرامة لنبي أو مصلح في وطنه.
3. الناس يجهلون أن الموازين الإلهية تختلف عن الموازين البشرية، وهم يتخيلون أن المصلحين يجب أن يتفوقوا على الناس الآخرين فيما يرون هم أنه مجالات للتفوق، ولذلك قالوا قديما:
{وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقرءان عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} [الزخرف:31]، {وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ....} [الأنعام:124]، {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز} [هود:91]
4. الرسالة العالمية تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها، وهناك من الآيات المتشابهات ما يحين أوان ظهور تأويلات لها، وكل ذلك يتلقاه من هم مهيئون لهذا التلقي طبقا للسنن الحقيقية وليس طبقا لأهواء الناس وآرائهم الشخصية.
***
لقد أنزل الله تعالى الذكر على رسوله ليبيِّن للناس ما نزَّله إليهم، فالرسول بالذكر المُنْزَل يبين للناس الذكر المنزَّل، فالذكر المنزَّل هو البنيان القرءاني اللفظي، والذكر المنْزل هو القرءان المتعين والكامن في القلب النبوي، والرسول بتلاوة القرءان عليهم يكون قد بيَّنه لهم ونقله من بطون إلى ظهور، وبذلك يكون القرءان قد نُزِّل بالنسبة لهم لتعين كيانه الطبيعي عندهم، والذكر لمن يفقه القرءان منْزل، وهو يمكن أن ينقله إلى غيره، والذكر لمن يحفظ المباني أو الألفاظ منزَّل، وبيان الذكر المنَزَّل يكون بالذكر المنْزل.
وقد رووا أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "ألا إني أوتيت القرءان ومثله معه"، وهذا القول يرجع إلى أصل صحيح هو أن الرسول قد أوتي القرءان المنزَّل ومعه القرءان المُنْزَل، والقرءان المنزَّل هو الصور الطبيعية (المادية) للقرءان متلوا ومرقوما والتي يجب تلاوتها بالمعنى المعلوم وكتابتها كما هي دون زيادة أو تغيير أو نقصان.
أما القرءان المُنْزَل فهو القرءان مع فقه معانيه الحقيقية، فهو القرءان وكل ما هو مقرر من أرتال المعاني التي يشكل القرءان المنزَّل الجزء الظاهر منها والذي هو مع ذلك يكافئها كلها لأنه لابد منه ليفضي إليها؛ فهو لا غنى عنه بينما ليس من الضروري، بل ليس من الممكن، أن يحيط إنسان بكل ما يتضمنه أو يفضي إليه من المعاني.
فالقرءان المنزل يتضمن المعاني الظاهرة للآيات وفحاوى هذه الآيات، ومنها المعاني التي تعطيها الآية بالنظر إليها في كافة سياقاتها الممكنة.
ولقد أساء بعض الناس إدراك المقصود بهذا القول، وظنوا أو زعموا أن المقصود بمثل القرءان هو كتب المرويات! وهذا غير صحيح، فمثل القرءان المُنزَّل هو الذكر المُنْزل، أي القرءان مصحوبا بمناهجه وطرق التعامل مع آياته وطرق استخلاص القول القرءاني منها، فالقرءان المنْزل يتضمن القرءان المنزَّل.
لذلك لم يكن من حق أحد إذا قضى الرسول أمرا أو قرَّر شيئا أو أمرهم بشيء أن يقول له: "ائتني بدليلك من القرءان"، فكل معاني القرءان كانت ماثلة حاضرة عند الرسول، ولكن لم يكن من المقرر أو المقدر أو حتى الممكن أن يقولها كلها لقومه، ولو فعل لما استوعبوا منها إلا ما يسمح به سقفهم الحضاري ودرجة تطور عصرهم.
ولقد قال تعالى في نفس السورة:
{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} النحل64
والآية هاهنا تؤكد وتصدق معنى البيان، لقد اختلفت الأمم السابقة في كثير من الأمور الدينية فجاء القرءان بالبيان الشافي والحاسم، والرسول يبيَّن لهم الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ بهذا الكتاب المنْزَل، وتبين الآية أيضًا أن هذا الكتاب هو هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، فمن أراد الهدى والرحمة فليؤمن بالله تعالى وكتابه، وليدخل حضرة القرءان مزوَّدا بهذا الإيمان، وعندها سيجد الهدى والرحمة.
وليس معنى ذلك أن يزعم عبيد المرويات الظنية أن مروياتهم هي مثل القرءان، فما أوتيه الرسول كان أمرًا خاصا به، فلا مثل للقرءان إلا القرءان نفسه في صورة من صوره.
*******
1