السبع المثاني
محاضرة المثاني السبع
المثاني السبع
مقدمة
قال تعالى:
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ (86) وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ سَبۡعًا مِّنَ ٱلۡمَثَانِي وَٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِيمَ (87)} الحجر
من الأمور المذكورة والمشار إليها في الآيتين:
1. مثنىً إلهي مُعبر عنه بلفظين مفردين، وهو "ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ".
2. الله تعالى يربّ الرسول بالمثنى الإلهي "ٱلۡخَلَّٰق ٱلۡعَلِيم"، وهذا يعني أن مقتضى هذا المثنى ماثل في نفس الرسول.
3. الرسول أوتي ٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِيمَ، وهو روحٌ من أمر الله ونور هاد، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الشورى:52]
4. الرسول أوتي سَبۡعًا مِّنَ ٱلۡمَثَانِي، وذكر المثاني مقترنًا بذكر القرءان يشير إلى تشابه في الحقيقة والحكم والأهمية، لذلك فالمثنى المؤتى هو كِيان أمري روحاني نوراني هاد، والاسم "المثنى" المفرد المعرف هو اسم نوع لكل كيان من هذه الكيانات.
5. اقتران ذكر المثاني بذكر ٱلۡقُرۡءَان ٱلۡعَظِيم يشير إلى أن مسألة إيتاء المثاني أمر كبير وجليل.
6. استعمال "مِن" التبعيضية يشير إلى أن عدد المثاني أكبر من سبع.
المثنى الإلهي
المثنى الإلهي هو أصلًا اسمٌ إلهي واحد في اللغة العلوية المحكمة، وقد استلزمَ التعبيرُ عنه باللسان العربي اقترانَ اسمين مفردين بترتيب معين، وهو يشير إلى سمة واحدة محكمة تفصيلها هو السمتان اللتان يشير إليهما الاسمان المفردان، لا بمعنى أن السمة الواحدة مركبةٌ منهما أو أنها ازدواج لهما، بل بمعنى أن هاتين السمتين من تجليات وتفاصيل السمة الواحدة المحكمة، أما هذه السمة فلها معانيها الخاصة التي تشير إليها الآياتُ التي ذُكر فيها المثنى، فالمثنى الإلهي يُلتَمسُ معناه ودلالاته ووظائفه من الآيات القرءانية التي ورد فيها ومن المعاني اللغوية للكلمتين المعبرتين عنه.
ذلك لأن القرءان كان قبل تفصيله بلسان علوي محكم ثم جُعِل بالتفصيل قرءانًا عربيا، قال تعالى:
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم} [الزخرف:4]
{الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير} [هود:1]
{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قرءانا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)} فُصِّلت
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} الدخان
ويًلاحظ ذكر المثاني والرمزين؛ الر، حم، وهما من الرموز العلوية المحكمة، والرمز "حم" يشير بصفة خاصة إلى المثاني.
وكذلك كان المثنى قبل تفصيله اسما واحدا، وبتفصيل القرءان وجعله عربيا استلزم التعبير عنه اسمين عربيين مقترنين.
فالسمة الواحدة التي يتضمنها المثنى هي تعلو بالضرورة على نطاق الإدراك البشري فليس لدى الإنسان بالتالي لفظٌ مفردٌ يعبِّرُ عنها، وهو لا يمكن أن يدرك إلا شيئًا من مقتضياتها من الآيات المصاحبة لها فضلًا عن مقتضيات السمتين المشار إليهما.
فمعنى المثنى هو متميز بالأصالة عن مجموع معاني السمتين عندما تؤخذ كل واحدة منهما على حدة.
ولا يجوز أبدًا القول بأن الاسم الثاني الواردَ في المثنى هو تابع للاسم الأول، فهما متكافئان، فالمثنى اسمٌ واحد مركب، وهكذا ينبغي أن يُعرب.
ومن حيث البنية فكل اسم من الاسمين اللذين يتضمنهما المثنى يمكن أن يكون: اسم فاعل بسيط (اسم فاعل)، اسمَ فاعل مؤكد (المُسمَّى عند اللغويين: صيغة مبالغة أو صفة مشبهة)، اسمَ معنى الفعل (مصدر)، تركيبا إضافيا مكونا من اسم ملكية "ذو" مضاف إلى اسم سمة إلهية.
ومن المثاني الإلهية: الرحمن الرحيم، الحي القيوم، العزيز الرحيم، العزيز العليم، العزيز الحكيم، الحكيم العليم، الحكيم الخبير، الواحد القهار، العزيز الغفَّار، الغفور الرحيم، العليم الحكيم، الخلاق العليم ...... إلخ.
ويوجد في قوائم الأسماء المحصاة تسعة وخمسون مثنى، والعلم بالمثاني لازم لفقه آيات القرءان وأسرار الوجود وسننه، ووجود مثنى يشير بالضرورة إلى ارتباط موجب بين السمتين اللتين يتضمنُهما، فثمة مثلًا ارتباط موجب بين السمات (العلم والحكمة)، (العلم والعزة)، (العلم والقدرة)، (القوة والعزة)، (الرأفة والرحمة)، (العزة والحكمة)، (اللطف والخبرة) .... الخ.
وترتيب الاسم في المثنى أمر هام ومميِّز، فإذا كان ثمَّة مثنى مكوَّنٌ من لفظين كـ"الغفور الرحيم"، فإن المثنى المكون من نفس اللفظين باختلاف الترتيب كـ"الرحيم الغفور" هو بالضرورة مثنى آخر يشير إلى سمة أخرى، كما نقول في الرياضة (xy ≠ yx)، لذلك تختلف مدلولات الآيات المصاحبة للمثنى "الغفور الرحيم" اختلافًا بيِّنًا عن مدلولات الآيات المصاحبة للمثنى "الرحيم الغفور"، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المثنيين "الحكيم العليم" و"العليم الحكيم" والمثنيين "الغفور الحليم" و"الحليم الغفور".
تفصيل وبيان:
الحكيم العليم والعليم الحكيم
الحكيم العليم
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيم} [الزخرف:84]، {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم} [النمل:6]، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} [الأنعام:83]، {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيم} [الحجر:25]
العليم الحكيم
{يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} النساء 26، {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} النور18، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} النور58، {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} التحريم2، {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيما} الفتح4، {... ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [الممتحنة:10].
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يوسف 6، {.... إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم} [يوسف:100]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} الحج52
من الواضح اختلاف نوعية الآيات المصاحبة لكل مثنى من المثنيين.
آيات الحكيم العليم: شؤون وأفعال إلهية، وكلها مكية.
آيات العليم الحكيم: المكية: التأويل والتدبير، المدنية: البيان والتشريع
الحليم الغفور والغفور الحليم
الحليم الغفور
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]
الغفور الحليم
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} آل عمران 155، {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} البقرة 225، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقرءان تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} المائدة101
آيتا الحليم الغفور: شؤون وأفعال إلهية، مكية
آيات الغفور الحليم: المغفرة والتشريع والسلوك، مدنية
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ والرَّحِيمُ الْغَفُور
الرَّحِيمُ الْغَفُور
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُور} [سبأ:2]
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
{وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} البقرة199، {وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء:106]، {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}الشورى5، ،{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} الأنعام 165، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}الزمر53، {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} القصص 16، {وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} الأعراف153، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} النحل119
{فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} المائدة39، {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الأنعام54، {وَمَن يَعْمَلْ سُوءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَّحِيما} النساء110
آية الرَّحِيمُ الْغَفُور: شؤون وأفعال إلهية، مكية
آيات الْغَفُورُ الرَّحِيمُ: مكية ومدنية: الاستغفار، المغفرة، التشريع
وبذلك يتبين أن لكل مثنى حقيقته المميزة.
المثنى المقتضى
عندما يربّ الله تعالى عبده باسمٍ ما فإن في حقيقته يوجد ما هو مقتضىً لهذا الاسم.
لذلك فالمثنى المؤتى هو الكيان الأمري الروحاني الذي اقتضاه المثنى الإلهي المشترك معه في اللفظ، فهو مثنى أمري مقتضى.
والرسول لم يؤت بالطبع المثاني التي هي أسماء إلهية، فهو العبد المحض لله، وإنما أوتي مقتضياتِها، وهي الكيانات الأمرية الروحانية الهادية المشار إليها، فالمثنى المؤتي هو مثنى مقتضى.
ولا حرج من وصف إنسان بمثان مشتركة لفظيا مع المثاني الإلهية، والرسول موصوف في القرءان بأنه رؤوف رحيم، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم} [التوبة:128]
والإنسان موصوف بأنه سميع بصير، {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]
ولكن الصفات الإنسانية مجعولةٌ مقدرة محدودة مقيدة، فهي من آثار السمات الإلهية التي هي واجبة ذاتية مطلقة، وتتعالى علوا مطلقا على التصورات والمفاهيم الإنسانية.
منهج استخلاص المثاني
لما كان القرءان هو المصدر الأوحد لأمور الدين الكبرى، ولما كان إيتاء المثاني هو -كما سبق القول- أمرًا كبيرا وجليلا، كان لابد من البحث عن المثاني السبع التي أوتيها الرسول فيه.
والبحث يجب أن يتم وفق منهج قرءاني حقاني قابل للتداول؛ يمكن نقله إلى الآخرين ليطبقوه بأنفسهم وليتحققوا من نتائجه.
ومن لوازم هذا المنهج وجوب النظر في كافة السياقات القرءانية ذات الصلة بالمسألة التي هي قيد البحث والنظر.
وأول سياق هو السياق الأقرب، وهو يذكر المثنى الإلهي "ٱلۡخَلَّٰق ٱلۡعَلِيم"، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ (86)} الحجر.
إن قوله تعالى {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ} يشير إلى أن الله تعالى يربّ الرسول بالاسم "ٱلۡخَلَّٰق ٱلۡعَلِيم"، فهذا يعني أن في حقيقته يوجد مثنى مقتضىً لهذا الاسم، وبذلك فالرسول أوتي المثنى الأمري الروحاني "خَلَّاق عَلِيم" كمقتضى للاسم الإلهي "ٱلۡخَلَّٰق ٱلۡعَلِيم"، وهذا من التأييد بالروح المشار إليه في القرءان، أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ.
وبذلك تم معرفة أحد المثاني السبع.
السياق التالي الذي يجب النظرُ فيه هو سورة الحجر بآياتها التسعة والتسعين، وفيها الآية: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحۡشُرُهُمۡۚ إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيم (25)} الحجر.
فالله تعالى يربّ الرسول هاهنا بالاسم "الحَكِيم العَلِيم"، وبذلك فالرسول أوتي المثنى الأمري المقتضى "حَكِيم عَلِيم".
ومِن تدبُّرِ الآيتين واستخلاص العوامل المشتركة The common factorsفيما بينهما يمكن استنتاج منهج استخلاص المثاني التي أوتيها الرسول من القرءان كله، وهو السياق الأكبر.
أسس استخراج السبع المثاني من القرءان العظيم:
1- أن تحتوي الآية القرءانية على مثنى يتضمن اسمين مفردين بسيطين متلاصقين.
2- أن تحتوى الآية القرءانية على كلمة "ربك".
3- أن يكون المثنى خبرًا لجملة اسمية المبتدأ فيها كلمة (ربُّك) أو ضمير يعود عليها.
4- أن يوجد في الآية تأكيد بالحرف (إنَّ) للجملة التي مبتدؤها كلمة (ربُّك) أو ضمير يعود عليها.
ومن البديهي أن يكون الخطاب في الآية موجهًا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ.
والشرط الرابع يمكن اختصاره بالقول: "أن يوجد في الآية تأكيد بالحرف (إنَّ)".
ولقد وجدنا بإعمال تلك الأسس أن المثاني التي أوتيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هُنَّ سبعٌ بالفعل، وبذلك يكون المنهج قد نجح في تحقيق الشرط الرئيس والأساسي، فلا يحتاج إلى أي تعديل.
وتلك المثاني هي:
"حكيم عليم" و"سميع عليم" و"خلاق عليم" و"عزيز عليم" و"عزيز رحيم" و"قوي عزيز" و"غفور رحيم".
هذه المثاني هي مثانٍ أمرية من مقتضيات المثاني الإلهية المشتركِة معها في الألفاظ، وهي: "الحكيم العليم" و"السميع العليم" و"الخلاق العليم" و"العزيز العليم" و"العزيز الرحيم" و"القوي العزيز" و"الغفور الرحيم".
آيات المثاني السبع التي أوتيها الرسول
والآيات التي تحتوي على السبع المثاني التي أوتيها الرسول وتوفي بالشروط المذكورة هي كما يلي:
1. الحكيم العليم
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} الأنعام83
ويُلاحظ الالتفاتة إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بعد أن كان الحديث متعلقا بإبراهيم عليه السلام
{وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} الأنعام128، {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} الحجر25
ويُلاحظ أنه يوجد تأكيد أيضًا بتكرار ذكر المثنى.
2. السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
{رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الدخان6
ويُلاحظ أنه يوجد تأكيد بالحرف إن، وبالضمير هو وبتعريف المثنى.
3. ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ} الحجر86
ويُلاحظ أنه يوجد تأكيد بالحرف إن، وبالضمير هو وبتعريف المثنى
4. الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} النمل78
ويُلاحظ أنه يوجد تأكيد بالحرف إن، وبالضمير هو وبتعريف المثنى
5. الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} الشعراء، وقد تكررت هذه الآية ثماني مرات في سورة الشعراء: (9، 68، 104، 122، 140، 159، 175، 191).
ويُلاحظ أنه يوجد تأكيد بالحرف إن، وبالضمير هو وبتعريف المثنى، فضلا عن التكرار.
6. الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ
{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} هود66.
ويلاحظ الالتفاتة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بعد أن كان الحديث متعلقا بصالح عليه السلام.
ويُلاحظ أنه يوجد تأكيد بالحرف إن، وبالضمير هو وبتعريف المثنى
7. الغفور الرحيم
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} الأنعام165، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} الأعراف167، {وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} الأعراف153، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} النحل110، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَلِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَمِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }النحل119، {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَما مَّسْفُوحا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الأنعام145
ويُلاحظ أنه يوجد تأكيد بالحرف إن، وبلام التأكيد وبتعريف المثنى، فضلا عن التكرار
ويلاحظ أن عدد مرات ورود كلمة "ربك" في هذه الآيات هو 23؛ أي هو نفس عدد سنوات الرسالة، كما أن الشرط الرابع، وهو أن تكون الجملة الاسمية التي خبرها المثنى مؤكدة قد تبين أنه شرطٌ زائد، بمعنى أنه لا يؤدي إلى استبعاد أي مثان أخرى، كما لا يؤدي إلى إضافة أي مثنى جديد، وإنما يؤدي إلى إضافة آية أخرى تتضمن المثنى "سميع عليم" الذي هو موجود أصلا، والآية هي:
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [الأنعام:115]
معنى إيتاء المثاني
للأسماء الحسنى، ومنها المثاني، مقتضيات متنوعة، ومنها مقتضيات كيانية، وهي لطائف أمرية تُضاف إلى الكيان الإنساني الجوهري، وهذا هو التأييد بروحٍ من الله.
وهناك قيم وأخلاق، وهي معانٍ راقية يتحقق بها الإنسان ويعمل بمقتضاها، فيتسمى بالأسماء الواصفة منها.
فالذي أوتيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هو اللطائف الأمرية والصفات الإنسانية الجوهرية التي هي من مقتضيات الأسماء الإلهية؛ أي إنه أوتي السمات المقتضاة وليس عين الأسماء الإلهية، فلكل اسم إلهي معانٍ مقتضاة في العالم الأمري، فالأسماء الإلهية لا تصير صفات لمخلوق، والفرق هائل بين السمة الإلهية الذاتية والأصلية والواجبة والمطلقة والتي تتعالى علوا مطلقا على التصورات والمفاهيم الإنسانية وبين صفة المخلوق المحدودة النسبية والمقيدة والتي هي من آثار ومقتضيات السمة الإلهية.
فالأمر هو من التأييد بالروح المشار إليه في قوله تعالى: {.... أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون} [المجادلة:22]
والإيتاء يمثل إضافة إلى الحقيقة الجوهرية The quiddity, the essence مع ثبات الأنانية الإنسانية The human I-ness.
إن إيتاء المثاني هو بالنسبة للكيان الجوهري إضافات دائمة إلى هذا الكيان وعمل ما يمكن تسميته ببرمجة مدمجة دائمة Built-in programming، وبالنسبة للرسول كان بذلك مستعدا ومؤهلا ليتلقى القرءان العظيم، فكان لذلك بمثابة Software، وقد كان بالنسبة له أيضًا ذكرًا، بمعنى أنه كان حاضرًا في ذاكرة عمل رئيسة دائمة A permanent working memoryخاصةٍ به، بحيث تكون أعماله وفقًا له، ومبينة له، ومصدقة له.
وإيتاء المثاني كان سابقًا ومواكبًا لإيتاء القرءان العظيم، وبه اكتسب الرسول الاستعداد اللازم لتلقي هذا القرءان، وبه كان كيانه الجوهري متسقا مع القرءان، فكان هو مجسدًا له ولما هو فيه من القيم والسنن، فالاتحاد تامّ بين الرسول وبين رسالته.
فإيتاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ سبعًا من المثاني اقتضى إيتاءَه الفاتحةَ والقرءانَ العظيم وإنزالَ القرءان عليه وإرسالَه به، فهو الإنسان الفرد من بين العالمين الذي تحمل وطأة ذلك، قال تعالى:
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم} [النمل:6]، {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)} الدخان، {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} [غافر:2]، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} الشعراء
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقرءان عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [الحشر:21]
وسيرة الرسول كانت في نطاق المثاني الإلهية التي أوتي مثانيها المقتضاة، قال تعالى:
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)} الشعراء.
والوجود كله يعامل الإنسان وفق الحقيقة الجوهرية المشار إليها.
والمنهج الناجح يجب أن يكون مثمرا، ومن ثمرات هذا المنهج:
1. ثبوت أن استخلاص أي عنصر ديني أو منظومة دينية يجب أن يكون وفق منهج قرءاني حقاني يتخذ من القرءان المصدر الأوحد لأمور الدين الكبرى.
2. إن منهج استخلاص المثاني كان بمثابة النموذج المبدئي Prototype الذي بيَّن جمع المنهج القرءاني للاستنباط والاستنتاج والاستقراء، وهو مبدئي لأنه تم نسج مناهج على منواله لاستخلاص باقي عناصر ومنظومات دين الحق، وعلى رأسها منظومات الأسماء الحسنى، ثم منظومات المقاصد والقيم والأركان والأمور والسنن الدينية.
3. العلم بالرسول الحقيقي، الرسول القرءاني، وسيكون هناك بعض التفصيل لذلك.
4. بيان أن القرءان معجز أيضًا برسمه، ولقد رمز الله تعالى لرسوله في آيات المثاني السبع وسورها إلى بعض توقيتات الأمور الهامة المتعلقة بحياته لتكون بشرى منه له، وهذا من أسباب حذف بعض الحروف المنطوقة من رسم بعض الكلمات.
5. يمكن معرفة المثاني التي أوتيها بعض عباد الله المصطفين الأخيار المذكورين في القرءان.
وعلى سبيل المثال فلقد أوتي النبي سليمان عليه السلام المثنى المقتضى "غنيّ كريم"، وكان الاسم الذي يربه ويتولى أمره هو الاسم الإلهي "الغنيّ الكريم"، وبذلك كان له الثراء المعلوم والمُلْك العظيم، وكان له الاستعداد لكي يسأل ربه السؤال الوارد في الآية: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب} [ص:35].
أما آدم عليه السلام فقد أوتي المثنى المقتضى "تواب رحيم"، والاسم الإلهي الذي كان يربه ويتولى أمره هو "التوَّاب الرحيم".
من العلم بالمثاني التي أوتيها الرسول يتبين أنه كان حكيما عليما؛ ذا علم محكم بالأصول والسنن والكليات والمقاصد والغايات، ويوقرّ السنن الكونية التي أجرى الله عليها أمور عالم الشهادة لتحقيق مقاصده الوجودية، وكان تركيزه على الأمور الجوهرية، وكان لا يحب التعنت والتفريع والتشقيق في التفاصيل والأمور الشكلية، وكان يعمل لكي يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
وكان سميعًا عليمًا؛ ذا ملكات ذهنية فائقة واستجابات وجدانية سامية، زكيَّ النفس، ذكيّ القلب، فائق اللبّ، وكان خلاقًا عليما ذا قدرات فائقة على الإبداع والتدبير والتصريف والتنفيذ واجتذاب القلوب.
وكان عزيزا عليما ذا قدرة فائقة على الحكم بالعدل والقيام بالقسط والحكم الصائب والتقدير الصحيح الراجح.
وكان عزيزا رحيما شديدا على الكفار رؤوفًا رحيمًا بالمؤمنين.
وكان قويا عزيزا لابد من انتصاره الانتصار النهائي التام على كل أعدائه.
وكان غفورا رحيمًا، ذا عفو وصفح وحلمٍ وسماحة وود ورأفة حريصًا على دعم صلاته بمن آمنوا به واتبعوه.
إن المثاني السبع التي أوتيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ هي:
"حكيم عليم" و"سميع عليم" و"خلاق عليم" و"عزيز عليم" و"عزيز رحيم" و"قوي عزيز" و"غفور رحيم".
هذه المثاني هي مثانٍ أمرية من مقتضيات المثاني الإلهية المشتركة معها في الألفاظ، وهي: "الحكيم العليم" و"السميع العليم" و"الخلاق العليم" و"العزيز العليم" و"العزيز الرحيم" و"القوي العزيز" و"الغفور الرحيم".
ولقد سبق القول بأن هذه هي المثاني الأمرية الروحانية المقتضاة في الذات المحمدية كآثار للمثاني الإلهية المشتركة معها في الأسماء، وهذه المثاني الإلهية هي تفاصيل ولوازم الاسم الإلهي الأعظم الخاص بالذات المحمدية.
وهذا الاسم الأعظم من تجلياته القرءان العظيم في عالم الأمر، ولذلك كان الرسول هو القرءان الحي يسعى، وصدق الله العظيم إذ يقول:
{.... قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} المائدة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)} النساء، {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} الطلاق.
ويُلاحظ الاتحاد التام بين الرسول وبين رسالته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم
والحمد لله رب العالمين
*******
1