top of page

نظرات في تاريخ مصر

طابا ومصطفى كامل

طابا ومصطفى كامل


مصطفى كامل لم يقلْ فقط "لو لم أكنْ مصريـًـا لوددتُ أنْ أكون مصريـًـا" ولكنه في خطاب له إلى السيدة الفرنسية (جولييت آدم) قال أيضًا "إني لا أزال صغيرًا، ولكنى أريد أنْ أوقظ مصر الهرمة" وهذه السيدة عرّفته على كبار الكتاب والسياسيين وسهــّـلتْ له الكتابة في الصحف الفرنسية، ولكنه مع ذلك كان مرتميا في أحضان الخلافة العثمانية، لدرجة التفريط في سيادة مصر على أراضيها لحساب الأتراك!! ومن المعلوم أن السلطان العثماني كان قد أنعم عليه برتبة الباشوية وهو شاب صغير! وموقفه من أزمة طابا يكشف الحقيقة.

في هذه الأزمة والتي نشبت سنة 1906 أرسلت الخلافة باخرة تابعة لها لاحتلال طابا، دافعت الحكومة البريطانية عن طابا باعتبارها منطقة تابعة لمصر، لم يكن ذلك بالطبع حبًّا في مصر، كان الإنجليز لا يريدون أي تهديد لقناة السويس.

لذلك أرسلتْ بريطانيا في يوم 17 فبراير1906 المدرعة البريطانية "دايانا" إلى طابا لمنع القوات التركية من التوغل في سيناء، ولتأمين القوات المصرية التي كانت في جزيرة فرعون.

شنت جريدة اللواء، (لسان الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل، هجومًا شرسًا على السياسيين المصريين المُدافعين عن حق مصر في طابا. فنشرتْ عدة مقالات تتهم سلطة الاحتلال البريطاني بإعداد جزيرة سيناء لأعمال حربية ضد الخلافة العثمانية، أو الباب العالي (مع أنه لم يكن يوجد ما هو أسفل منه!!) أهاج ذلك قوى الشعب الجاهل المتخلف!! هذا رغم أنّ الخلافة العثمانية كانت تستهدف سلخ سيناء عن مصر.

ولو نجحت مساعي مصطفى كامل ومن ورائه قوى الشعب المتخلف الجاهل المتدين بطبعه لأصبحت سيناء غنيمة للمنتصرين في الحرب العالمية الأولى مثل كل العالم العربي في المشرق، ولتم دخولها في اتفاقية سايكس-بيكو لينالها أكثر الأطراف حظوة!!!

فلقد كان مصطفى كامل وأعضاء حزبه اللاوطني على وفاق مع الخديوي عباس الثاني الموالي للباب السافل، وقد كتب مصطفى كامل في جريدته اللواء في 7 مايو 1907 ما يكشف عن موقفه المتواطئ مع الخلافة العثمانية ضد مصلحة مصر: "ما دامت مصر ولاية تركية، فلا يمكن أنْ يوجد بينها وبين بقية الولايات الخاضغة للإدارة التركية مباشرة حدود تخوم"!!!

ولكن الباب السافل التركي كشف نفسه بتقديمه مذكرة إلى وزارة الخارجية المصرية، اتضح منها أنّ المطامع التركية تتعدى بكثير موقع طابا، وترمى إلى الاعتراف للسلطان بحق الاستيلاء على جزء من سيناء أو سيناء بأسرها، في هذه الأثناء قـدّم مصطفى فهمي باشا وبطرس غالى باشا مذكرة إلى الخديوي عباس جاء فيها "إنّ الحدود المصرية في شبه جزيرة سيناء تنتهي بالعقبة، ويدخل في هذا التحديد موقع طابا"

أيَّد الخديوي عباس وجهة نظر الخلافة العثمانية، وشجـّـع الباب السافل على موقفه المُـتشدد دون الاكتراث بمصالح مصر، ودخل مصطفى كامل في المزايدة لصالح الباب السافل التركي، وكان هدفه خلق المشكلات للإنجليز، ولو على حساب مصر.

لم يرتدع السلطان التركي إلاّ بعد أنْ أرسلتْ بريطانيا بارجة حربية إلى المياه التركية يوم 14 فبراير1906، بعدها بأربعة أيام فقط تراجع الخليفة المستأسد!

كشف مصطفى كامل نفسه أمام أنصار القضية المصرية في أوروبا، قام بحملة واسعة ليثبت للأوروبيين أن العالم الإسلامي بعيد كل البعد عن التعصب الديني، إلَّا أنه لم يستطع الإجابة على سؤال: "كيف تـــُـفسّـر موقفك وموقف حزبك، بعد رغبتكم في التنازل عن أراض مصرية إرضاء للخلافة الإسلامية على حساب وطنك مصر؟"، صمت مصطفى كامل ولم يجد ما يقوله، خاصة بعد أن انتشرت الأخبار أن تركيا تمده بالمال اللازم للقيام بالدعاية ضد الاحتلال الإنجليزي.

ومن المضحك أنّ مصطفى كامل كان يفضل الاستعمار الفرنسي على الاستعمار الإنجليزي، وكان يتصوّر أنّ فرنسا ستقف مع مصر ضد بريطانيا، ولم يستطع أن يدرك أن الاستعمار الفرنسي هو استعمار استيطاني شرس، يهدف إلى تبديل الهوية القومية كما حاولوا في الجزائر، بينما كان الاستعمار الإنجليزي يترك إدارة أمور مصر لأهلها، ولا يريد إلا تأمين قناة السويس وخطوط مواصلاته إلى الهند؛ درة التاج البريطاني.

أما أحمد لطفي السيد، وهو بحق محيي القومية المصرية في العصر الحديث فكان يقول: "يجب ألاّ نقع مرة ثانية في حبائل ذلك الوهم الذى كان يُراود أمتنا الوقت بعد الوقت، حيث كان يُقال مرة إنّ فرنسا ستحرر بلادنا (في إشارة إلى مصطفى كامل)، ومرة أنّ الدولة العلية (العثمانية) ستخرج الإنجليز من بلادنا، لابد لنا من عزة تربأ بنا عن أنْ نطلب من غيرنا أنْ يأتي ليحرر نفوسنا من الرق وقلوبنا من عبادة القوي، إنّ الاعتماد على الموازنة الدولية والمعاهدات الدولية والتصريحات البرلمانية صار من المودة القديمة، فلا ينفع مصر شيئــًـا كثيرًا، وإنما الذي ينفعها هو ألا تني لحظة واحدة عن العمل لذاتها وعن إثبات شخصيتها القومية"، من صحيفة الجريدة 2/9/1912 بتصرف).

تكرّر موقف الحزب الوطني بعد وفاة زعيمه (مصطفى كامل) حيث أنّ إيطاليا غزتْ ليبيا عام 1911، فطالب السلطان العثماني وقوف مصر مع ليبيا (أي مع تركيا) فتزعم أعضاء الحزب الوطني الدعوة لجمع التبرعات وتشجيع المصريين للتطوع (للجهاد) من أجل نصرة الإسلام في ليبيا، فرفض لطفي السيد تلك الدعوة وانتقدها بشدة، فكتب أنّ هذه الحرب بين إيطاليا وتركيا من أجل ليبيا، لا شأن لمصر بها. وأنّ من مبادى حزب الأمة أنّ مصر أولا، وليست مع الإنجليز، وليست مع الخلافة العثمانية.

من الجدير بالذكر أن تأييد الشعب المصري الهائل للعثمانيين والليبيين في حربهم ضد الإيطاليين أدَّى إلى فقدان مصر لواحة جغبوب مع شريط كبير يمتد بطول حدودها!! وكانت هذه الواحة هي مركز مصري متقدم لإمداد الليبيين بالمؤن والأسلحة!!!

فالمصري الحقيقي أحمد لطفي السيد، ومعه حزب الأمة كان يدعو إلى:

1. مصر أولا ومصر أخيرًا ولا ولاء للدولة العثمانية أو لبريطانيا

2. الاصلاح هو المقدمة للتحرير

بينما مصطفى كامل وحزبه اللاوطني فكان يدعو إلى تحقيق السيادة العثمانية على مصر بموجب الفرمان السلطانى الصادر في عام 1841 وما بعده من فرمانات ودعم العلاقات بين مصر والامبراطورية العثمانية.

ومع ذلك فقد حظي مصطفى كامل بمكانة مقدسة عند المصريين، وأُطلق اسمه على معالم عديدة، بل على معسكرات كبرى، بينما خمل ذكر أحمد لطفي السيد بل حظي بالهجوم عليه لأنه من أسرة اقطاعية!!

وهذا هو الفرق بين شعوب أوروبا المتقدمة وبين الشعوب الجاهلة المتخلفة المتعصبة، فالأوروبيون لم يصدهم الأصل الطبقي لبعض مفكريهم وأدبائهم العظام عن الانتفاع بأفكارهم.

إن أزمة طابا وموقف الزعيم مصطفى كامل وحزبه لمما يُثبت، للأسف، أن المصريين في ذلك العصر لم يكونوا مؤهلين للاستقلال التامّ!!

*******

من جديد للمقارنة بين الرجلين مصطفى كامل وأحمد لطفي السيد:

عندما احتلت تركيا طابا واعتبرتها أملاكا تركية، في مطلع عام 1906، صرح السلطان العثماني عبد الحميد الثاني: "أن شبه جزيرة سيناء تتبع الدولة العثمانية." واحتلت قوة تركية مدينة طابا، فاعترضت الحكومة الانجليزية على هذا الفرمان، كتب مصطفى كامل في افتتاحية جريدة اللواء (22/4/1906)

"مصر لا ولاية لها على سيناء، وأنّ الفرمانات التي تـُعطى لمصر، سلطة إدارة سيناء إجراءات مؤقتة لا تؤثر في الحق العثماني الأصيل.

وفى عدد 8 مايو 1906 كتب مقالا آخر قال فيه إنّ

حادث طابا يجب أنْ يُنظر إليه على أنه خلاف بين دولة مُحتلة بالاغتصاب هي بريطانيا، ودولة هي صاحبة السيادة على مصر هي تركيا.

أما أحمد لطفي السيد فهاجم الاحتلال التركي لطابا وقال: " سيناء أرض مصرية ومصر للمصريين فقط. " وكتب في صحيفة الجريدة:

"مصر ليست جزءًا من دولة الخلافة ويجب ألا تتبع تركيا، لأنّ سيادة تركيا لا تجلب لمصر منفعة ولا تدفع عنها مضرة ولا تستطيع أنْ تـُنقذها من الاحتلال البريطاني الذي لا يمكن الخلاص منه إلاّ بالاعتماد على أنفسنا، وأنّ مصر يجب أنْ تكون للمصريين، لا للإنجليز ولا للعثمانيين."

وقد انتهت أزمة طابا 1906 بانسحاب الدولة العثمانية انسحابًا ذليلا من طابا، والإقرار بالسيادة المصرية عليها، وتم توقيع اتفاقية ترسيم الحدود الشرقية البرية لمصر، وهي الوثيقة التي استردت بموجبها مصر طابا من إسرائيل.

ولكن الأزمة تسببت في كشف موقف حزب مصطفى كامل الوطني، وقد ثبت أنه كان ممولا من الخديوي عباس حلمي الموالي للعثمانيين.

*******

1

bottom of page