الإسلام والأمة والدولة والمذاهب المعاصرة
الإسلام والعلمانية 2
إنه في العصر الحديث حيث لا مفر من وجود الدولة العلمانية يجب أن تتفق كافة طوائف الشعب على مرجعية واحدة تتضمن مجموعة من المبادئ المتسقة فيما بينها يمكن العودة إليها واستمداد القوانين وآليات التعامل منها وتتجسد في دستور يمثل ما هو متفق عليه من المبادئ.
*******
إن العلمانية الصحيحة تحترم الأديان والمذاهب، فهي لا تمنع الفرد إطلاقا من الإيمان بالله، ولا أن يعتنق دينًا معينا ولا أن يلتزم به، ولا أن يظهر ذلك أو يعلنه بطريقة أو بأخرى، بل إنها لا تمنعه حتى من الدعوة إلى دينه. كذلك توفر للفرد الحرية في تربية أطفاله حسب معتقده، فهي تبقى كل فرد حراً في الانتماء إلى دينٍ من اختياره، وهي تتصدى للإكراه في الدين وتحرمه، وهي لا تمنع الفرد من التعبير عن انتمائه هذا أمام الملأ، ما دام هذا التعبير لا يضر بحرية الآخرين ولا ينتهك القانون ولا يهدد النظام العام، وهي لا تمنع المؤمن من المشاركة في الحياة الجماعية التي تفرضها عليه صفته كمواطن، ولا تنال من حقوقه الأساسية بحجة انتمائه إلى دين معين، وعلى المجتمع الإسلامي في أية دولة أن يعمل على تحقيق مقاصد الدين بالقيام بأركان الدين على أن يحسن الموازنة بين الأمور وأن يعلم أنه غير مكلف إلا بما هو في وسعه.
والمسلم الذي لا يرى بديلا في الظروف الراهنة عن النظام العلماني حكمه حكم المضطر، وهو يؤمن إيمانا تاما بأن حكم الله هو الأحسن لقوم يؤمنون وبأن الحكم لله، فهذا المسلم هو أشرف وأفضل من سدنة ومؤسسي الدين السلفي الذين جعلوا من قواعد مذهبهم الخضوع المطلق لكل من قهر الأمة بسيفه وإن طغى وبغى وفسق وجار وأفسد في الأرض وألزموا كل مسلم بألا ينام إلا وهو يراه إماما عليه وإلا فإنه يكون قد خلع الربقة وفارق الملة، ويلاحظ أن كل طوائف الدين السني على اختلافهم حتى في أمور العقيدة قد أجمعوا على ذلك، وإلى هؤلاء هذا السؤال: لماذا يكون الولاء لمتسلط فاسق فاجر ظالم فاسد أمرا واجبا لا تجوز مخالفته لمجرد أنه يسمي نفسه خليفة يمكن أن تنعقد له البيعة بفردين في حين تحرم طاعة قائم بالأمر مسلم يحكم بالعدل ويقوم بالقسط ويحترم القانون وهو منتخب من أغلبية الناس لمجرد أنه يسمي نفسه رئيسا أو لأن نظام حكمه نظام علماني؟ سيقولون إنه يسمح بمظاهر الفسق في المجتمع ويسمح بتعاطي الخمور والاتجار بها ولا يطبق العقوبات الشرعية، ولكنكم أنتم الذين سمحتم بأن يكون المتسلط نفسه فاسقا جائرا فلم يحدث على مدى التاريخ أن حوكم خليفة أموي أو عباسي بسبب الجرائم الكبرى التي اقترفها في حق الدين أو في حق الأمة، ولقد عاش معظم الخلفاء العباسيين والأمويين يتقلبون في أوحال الدنيا ويفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ولا يقتلهم أو يمثِّل بهم إلا عبيدهم وحرسهم، ومع ذلك فقد زعم شويخص من أئمة السنة -الذي ربما لا توجد كلمة في قاموس الشتائم تصلح لوصفه- أن الأصل في أفعال الإمام (أي الخليفة الأموي أو العباسي) العدالة، وعلى من يزعم خلاف ذلك أن يأتي ببينة، وكان ذلك في سياق دفاعه عن زعيم أهل البغي، لقد زعم هذا الشويخص لكل متسلط الإمامة وزعم له ما يفوق ما زعمه فرعون لنفسه.
*******
إن العلمانية الصحيحة لا تلزم المرء بدين أو بمذهب معين، ولا تلزمه بأن يكون ملحدا في حياته العامة ولا تتخذ من الإلحاد عقيدة رسمية للدولة، ولكنها تحكم بالعدل وتقوم بالقسط وتجعل الجميع متساوين أمام القانون، فلا يأخذ أحد حق غيره بسبب انتمائه الديني إلى عقيدة القائمين على الأمر أو الأغلبية من المواطنين، ولا يميز طائفة على باقي الطوائف بزعم أنها تعتنق الدين الصحيح، ولا يعطيها حقّ انتهاك حقوق الآخرين باسم هذا الزعم.
*******
من ملامح علمانية الإسلام
1. الإسلام يقرر بأقوى عبارات المكانة المتميزة للإنسان في الكون وأنه كان من مقاصده جعله خليفة في الأرض وحامل للأمانة ومكرَّم ومفضل على كثير من الخلق تفضيلا، وكونه كذلك يلزمه بالاهتمام بهذا الكوكب وبكل ما هو فيه من كافة أنواع المخلوقات وأن يجيد استعماره والانتفاع بموارده وأن يرى آيات الله تعالى فيه، والقرءان يقصُّ على الناس كيف خلق الله الإنسان رغم تعجب ملائكته من هذا الأمر.
2. الإسلام يجعل المسلم يتعبد إلى الله تعالى باحترام حقوق الإنسان وكرامته وأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل والقيام بالقسط.
3. التسامح الديني من أركان منظومة القيم الإسلامية، وهو يأخذ بكل المبادئ اللازمة للتعايش السلمي بين أتباع شتى الأديان والمذاهب.
4. الإسلام لا يهمل شأن الحياة الدنيا بل يعلن أن من المقاصد الوجودية الكونية أن يكون الإنسان خليفة في الأرض يستعمرها وينتفع بها.
5. الإسلام يجعل من أركانه قيام الإنسان بواجباته تجاه الأرض التي يحيى عليها فلا يفسد فيها بل يصلح ويعمل على استعمارها.
6. من مقاصد الإسلام الشرعية صلاح أحوال الناس والقيام بالقسط والحكم بالعدل والتصدي للمفسدين في الأرض.
7. الإسلام يقرّ مبدأ سيادة القانون وتساوي الجميع أمامه.
8. لا وجود لسلطة كهنوتية ولا لتجارة بالدين في الإسلام؛ فالدرجات الدينية العليا متاحة للناس كافة، فمناط التفاضل الديني في الإسلام التقوى والعمل الصالح والقلب السليم.
9. الإقرار بحقائق الوجود وسننه وما يترتب عليها من حتمية الاختلاف بين الناس في كل شيء، فلا يمكن أن يتطابق اثنان منهم تمام التطابق ولا أن يتفقا في كل شيء، والقرآن لا يأمر المسلمين بأن يشنوا حرباً لا نهاية لها ضد كل من خالفهم بعد أن أعلن أن هذا الخلاف كان بأمر الله وبتدبيره، ولا يأمرهم بقتال من أمرهم أن يحكموا بما أنزل إليهم في كتبهم، ولكن القرآن أمر بلا ريب بالتصدي للظلم والاضطهاد والعدوان.
10. احترام فطرة الإنسان.
11. الإسلام يعتبر الإنسان بكيانه كله آية من آيات الله تعالى، ويعتبر حواسه وملكاته من النعم الإلهية، ويأمر الإنسان باستعمالها، ويندد بمن يرفضون ذلك، ويعتبرهم أضل سبيلا من الأنعام، ويتوعدهم بعذاب السعير.
12. احترام القوانين والسنن الكونية والتاريخية.
13. عدم سب الآخرين ولا التطاول على معتقداتهم أو سبها أو الاستهزاء بها، ولا يستلزم هذا من المسلم أن يعجب بباطلهم ولا أن يمتنع عن الجهر بالحق الذي يعرفه ولا أن يسعى لاسترضائهم.
14. الإسلام يأخذ بنظام أولي الأمر الذي يحقق الفصل بين السلطات بطريقة تلقائية.
15. عدم السماح بأن يحظى أي فرد بميزة مجانية بسبب وظيفة دينية أو انتماء إلى سلالة معينة.
16. يتضمن الإسلام قيما وآليات وقوانين وسننا تسمح للمسلمين بالتعايش السلمي مع كل الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وتجعل السلم والتسامح والقيام بالقسط والعدل والبر أركان التعايش بين الناس، وفي الحقيقة إن ذلك من مقاصد الدين العظمى
17. يتضمن الإسلام قيما وآليات وقوانين وسننا تمكن المسلمين من التعايش مع عصرهم ومتابعة التقدم وتحقيق التفوق والسبق على غيرهم.
18. الإسلام يجعل من مقاصده وأركانه أن يستعمل الناس ملكاتهم الذهنية ويندد بقوة بمن لا يستعملونها اتباعا لأسباب غير موضوعية، ويجعل الامتناع عن استعمالها السبيل إلى جهنم وبئس المصير.
19. الإسلام يأمر بالنظر في المظاهر الطبيعية ومنها الكائنات الحية ويعتبرها من آيات الله تعالى كما يأمر بالسير في الأرض للنظر في كيفية بدأ الخلق؛ فهو يجعل من إعمال ملكات الإنسان في كل ذلك ركنا دينيا ملزما.
*******
من نقاط الالتقاء بين الإسلام وبين العلمانية
1- الإسلام ليس فيه كهنوت يزعم سدنته لأنفسهم حق التحدث نيابة عن الله أو حق تقرير مصائر الناس، فيدخلون من يشاءون الجنة ويحرمونها على الآخرين، فمدار ذلك على العقيدة الخالصة والعمل الصالح، وليس المشتغلون بالعلوم ذات الصلة بالدين إلا معلمين ومرشدين مثل غيرهم في سائر العلوم، والأمر متروك بعد ذلك لمن شاء أن يستفيد أو لا يستفيد بالتطبيق، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وقد يكون المتعلم أقرب إلى اللّه من معلمه، والكل مأمور بالتزام الطريق المستقيم الذي رسمه اللّه لهم جميعا، فما دامت العبادة للَّه وحده فهو وحده الذي يقبل منها ما يشاء.
2- الإسلام ليس فيه سلطة مقدسة مستمدة من سلطة اللَّه، وليس في البشر من هو معصوم من الخطأ، إلا من اصطفاه اللّه لرسالاته، والسيادة في نظامه إنما هي لقوانين الدين أو لما يسنه أولو الأمر من قوانين متسقة معه، فكل شيء فيه اختلاف رأي يرد إلى اللَّه والرسول، وليس في الإسلام عائلات مقدسة ولا أبناء لله، والحكم في النظام العلماني هو أيضاً للقانون، ولا يستمد أي قائم بأمر أية سلطة لأسباب غير متفق عليها أو غير مرتضاة من الناس.
3- لا رهبانية في الإسلام، بل إن الإسلام يقرر أن الرهبانية عند أهل الكتاب مبتدعة، فالإسلام يمقت الرهبنة التي تعطل مصالح الدنيا، ويجعل النشاط الذي يبذل لتحقيق هذه المصالح من أركانه وعناصره، فهو دين يجعل من إصلاح أمر الدنيا وسيلة للنجاة وللدرجات العلى في الآخرة.
4- عقائد الإسلام ليست فيها خرافات ولا أباطيل، وليس فيها ما يستطيع أي عقل أن يقطع ببطلانه، والإسلام لا يمنع الناس من استعمال عقولهم وإنما يأمرهم بذلك ويندد بمن لا يفعلون ذلك، واستعمال العقل للنظر في الآيات الكتابية والكونية هو ركن ديني ملزم.
5- الإسلام يقدس العلم، ويجعله قيمة في ذاته ومناطاً للتفاضل بين الناس وسبباً لارتفاع الدرجات في الدنيا والآخرة، ولقد أوجب على الناس النظر في الظواهر الكونية والتاريخية لمعرفة سننها، وهو دين الحق الذي لا ينحاز أبداً إلى وهم أو باطل أو ظن أو تراث أسلاف أو أي أمر غير موضوعي.
6- الإسلام دين تقدم وتطور وحضارة، فهو يرفض الأساليب الخرافية وغير الموضوعية كاتباع الآباء والظنون والأهواء، وهو ينهى عن الجدال في الحق بعدما تبين، وهو لا يقبل بالقديم على علاته فهو ينهى عن التبعية المطلقة في الفكر كما يأمر بالاعتبار وترك السلوك الذي يظهر بطلانه، بل يقرر أن اللّه يبعث مجددين على رأس كل قرن يعيدون النظر في المعطيات الدينية ويجتهدون للناس فيما استجد من أمور.
*******
إن من أبرز سمات العلمانية العقلانية والتقدمية، والمقصود بالعقلانية رفض الاتجاهات غير الموضوعية والخرافية والماضوية ورفض الاستناد إليها لتفسير وقائع التاريخ أو التنبؤ بوقائع المستقبل أو اتخاذ القرارات في الحاضر، والجانب الإيجابي منها هو الاحتكام إلى المنطق والمناهج العلمية في معالجة الأمور المذكورة، أما التقدمية فتتضمن رفض الاتجاهات السلفية الماضوية أيضاً والإقرار بأن معارف الإنسان التفصيلية قابلة لأن تتضاعف وأن تتحسن وأن الماضي ليس أفضل بالضرورة من الحاضر مع التسليم بوجود عصور ذهبية في الزمن الماضي حدثت فيها طفرات في مجالات متعددة، وعلى رأس هذه العصور بالطبع تلك التي ظهر فيها الرسل.
ورفض التسلط الكهنوتي هو من أبرز سمات العلمانية بل ربما كان سمتها الأبرز والمسبب لوجودها أصلا، فلا يجوز السماح للكهنوت بأن يتسلط على الناس ولا أن يزاحم سلطات الأمة في مجالات عملها، ولا يجوز السماح للمؤسسات المحسوبة على الأديان بالتدخل فيما هو خارج اختصاصها.
*******
إن للعلمانية بلا شك صورها العديدة التي طُبِّقت بدرجة أو بأخرى في دول عديدة، فأشدها تطرفا هو العلمانية التي تعادي الدين وتهدف إلى القضاء عليه، وتلك العلمانية يجب التعامل معها ومع دعاتها بحزم، فما هم إلا شياطين الإنس، وهم لا يريدون بأوطانهم خيراً، ويليها في التطرف العلمانية التي تهدف إلى فصل الدين عن الحياة العامة، ولا يجوز التهاون في أمر علمانية كهذه ولا في أمر دعاتها، وهناك العلمانية التي تهدف إلى فصل الدين فصلا مطلقا عن السياسة، وبذلك لا يكون هناك منظومة قيم تحكم الأمور السياسية الداخلية أو الخارجية، وهذه الصور لا تظهر بصورة فجة إلا في البلدان ذات الأغلبية المسلمة وكلها ليست إلا محاولات للقضاء على الإسلام، أما آخر صور العلمانية فهي التي تهدف إلى فصل الدين عن الدولة، وهي للأسف الصورة المقبولة الآن بحكم الأمر الواقع وبالنظر إلى الحالة السيئة والمتردية للمحسوبين على الإسلام.
*******
إن القبول بنظام علماني يقوم بالقسط ويحكم بالعدل ويحقق النهضة والتقدم ولا يضيق بحرية الفكر والرأي ويقدس حقوق الإنسان ويحمي كرامته هو أفضل من القبول بحكم متسلط فاسق جائر فاجر جاهل ظالم يجلد الظهور ويسرق الأموال ويسمي نفسه بالسلطان أو الخليفة ويحشد مئات وربما آلاف الجواري والغلمان في قصره.
ولقد عاشت الأمة على مدى حوالي أربعة عشر قرنا تقبل بأن يحكمها أمثال هؤلاء بغير ما أنزل الله ولقد ارتضت ذلك وألزمها رجال دينها بالرضا بذلك، ولقد صيغ المذهب السائد ليجعل من ذلك عقيدة من لم يقبل بها يخلع الربقة ويفارق الأمة ويمرق من الدين، ونفس رجال الدين يقولون الآن إن العلماني كافر لأنه ارتضى الحكم بغير ما أنزل الله بينما هم يسبحون بحمد بعض الملوك والطغاة الذين يحكمون الناس بالفعل بغير ما أنزل الله.
إنه يجب أن يعلم كل مسلم أن ما أنزل الله هو أوامر مشددة بأداء الأمانات إلى أهلها وإلى الحكم بالعدل والقيام بالقسط، تلك هي أقوى وأوجب الأوامر فيما يتعلق بالعلاقات بين الناس، قال تعالى:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}النساء58، {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }النحل90، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحديد25، {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }الأعراف29، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }المائدة8، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }النساء135، وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}الحجرات9.
فالأوامر الواردة في هذه الآيات هي ملزمة لكل الناس وملزمة بصورة أشد للقائمين على الأمور، أما سدنة الدين الأعرابي الأموي فعاشوا على مدى القرون يهللون لخليفة مجرم لص يقتني في قصره مئات الجواري والغلمان لأنه قطع يد فقير معدم سرق نصف دينار أو لأنه سفك دم إنسان مخلص لأنه جهر بحبه لله أو طالب بتحقيق العدل، وذلك لمجرد أنه يتبع دينهم الأعرابي الأموي ويسفك لهم دماء المسلمين الآخرين المختلفين عنهم.
*******
يقولون إن العلمانية تعني أن يعتقد الإنسان أنه غير ملزم بالخضوع لأحكام الله في كل نواحي الحياة، ولكنهم هم الذين ألبسوا انتهاك المتسلطين لأحكام الله ثوب الشرعية وأعطوا هؤلاء المتسلطين كل الشرعية لسفك دماء من خرج عليهم وزعموا لهم أن هؤلاء هم المفسدون في الأرض، بل إن بعضهم أعطوا المتسلط المجرم حق القضاء على ثلث الأمة ليبقى في زعمهم الآخرون.
*******
إن البعض يريد أن يحمِّل العلمانية مسئولية ما شاع في بلاده من مظاهر الفسق والفجور ونقص الدين وضعف الإيمان، ذلك رغم أنهم يعتبرون أن نفس هذه الأمور هي التي أدت إلى انهيار الأمة الإسلامية وتخلفها وتمكن أعدائها منها، ألا ليت هؤلاء يرجعون إلى كتب التاريخ المعتبرة ليروا كيف كانت أحوال المسلمين قبيل قدوم الغربيين، إنه لولا قدوم الغربيين لهلك المحسوبون على الإسلام بسبب جهلهم وتخلفهم وعدم قابليتهم للتطور الحضاري.
*******
إنه لا يجوز أن يحمِّل المتأسلمون العلمانية المسئولية عن الحالة المتردية للمحسوبين على الإسلام، ويجب أن يعلموا أن المتسلطين عليهم لا هم لهم إلا التسلط عليهم تحت أي شعار، فلم يكن السادات ولا مبارك ولا القذافي ولا الأسد ولا صدام ولا غيرهم يفقهون في العلمانية شيئًا مثلما لم يكن الولاة العثمانيون ولا السلاطين الأمويون والعباسيون يفقهون في الدين شيئا، بل إن من هؤلاء من تحالف مع شر المذاهب المحسوبة على الإسلام والتي يعتنقها المتأسلمون واستغلهم للبطش بخصومه، إن الحالة المتدهورة للشعوب هي التي تفرز تلك النوعية من الطغاة المستبدين الذين سيعملون بالضرورة وربما دون وعي منهم على تكريس وترسيخ الأوضاع التي أدت إلى ظهورهم وتسلطهم، ولذلك كان دفع الناس بعضهم ببعض من السنن الكونية، فعندما كان الداخل يعجز عن التخفيف من وطأة القهر والظلم كان الحل يأتي من الخارج.
*******
يقول بعض السلفية: "إن المطالِب بالعلمانية أو بالمجتمع المدني بسبب استبداد وجور المتسلطين إنما يفر من الظلم إلى الكفر"، ولو أنصفوا لقالوا إنهم يفرون من الدرك الأسفل من النار إلى مجتمع العدالة والحرية، فهؤلاء المطالبون يبحثون للأمة عن مخرج ليس من الظلم فقط وإنما من النفاق والجهل والتخلف ومن الهزيمة وفقدان الكرامة ومن تلاشي أي أمل في تحقيق إصلاح أو نهضة حقيقية، والمنادي بالمجتمع المدني ليس كافراً بالضرورة كما أن المتمسك بالسلفية المتحجرة ليس مؤمناً بالضرورة، وهو إما أن يكون جاهلا متخلفاً مضللا وإما أن يكون منافقا، والحل الذي يقدمه السلفية هو استمرار دعوة المتسلطين إلى إصلاح أخطائهم والصبر على ظلمهم وجورهم، ولكن لقد صبرت الأمة كما لم تصبر أمة من قبل ولا من بعد، والحق هو أن النهج السلفي يتضمن اتخاذ القرءان مهجوراً واستبعاد أركان الدين الكبرى ومقاصده العظمى في سبيل ألا يتم المساس بأي متسلط ولو كان قد قبر من زمن بعيد أو لو كان مازال في ضمير الغيب، إنه لو كان المراد تلخيص المقصد الأعظم للدين السني السلفي في عبارة واحدة لكانت هي: "ضرورة خضوع الأمة مطلقاً لكل من قهرها وإن فسق وفجر وجلد الظهور وقتل طالما ترك السلفية يفعلون ما يشاءون أو طالما سمى نفسه بالخليفة"، ولا غرابة في ذلك فلقد وُضِع هذا الدين أصلًا لإعطاء الشرعية لمعاوية ومن على شاكلته ومنع الناس من المساس به في حياته أو بعد مماته، ومازال السلفية باقون على هذا العهد.
*******
إن العلمانية تتفق مع دين الحق في ضرورة فض الاشتباك والتحالف المعلن أو الخفي بين القائمين على الأمور وبين المؤسسات الكهنوتية، وكذلك في ضرورة فض الاشتباك بين الدين وبين المؤسسات التي تتكسب به بطريقة أو بأخرى، إنه يجب فصل الدين عن الدولة، ذلك لأن الدين لا يعني الآن بالنسبة لأكثر الناس إلا ما يقوله رجال الكهنوت وسدنة المذاهب وما توارثوه من مذاهب صيغت في عصور الجهل والاستبداد والتخلف ويريدون لها السيطرة الدائمة على الناس مهما تبين للكل عواقبها الوخيمة عليهم.
*******
العَلمانية تعني اصطلاحًا فصل المؤسسات الدينية عن السلطة السياسية، فهي لا تسمح للمؤسسات الكهنوتية بالتدخل في إدارة الدولة؛ أي بالتدخل فيما هي غير مؤهلة أصلا للتدخل فيه، وهي تكفل عدم قيام الدولة بإجبار أي أحد على اعتناق وتبني معتقد أو دين أو تقليد معين لأسباب ذاتية غير موضوعية، كما تكفل الحق في عدم اعتناق دين معيّن وعدم تبني دين معيّن كدين رسمي للدولة، فهي لا تعطي أية مزايا مجانية لأتباع دين أو مذهب معين.
وفي ظل وجود وسيطرة المذاهب الضالة الجهولة المتناحرة التي حلَّت محل الإسلام فإن العلمانية هي الأفضل، فهي البيئة التي تحمي أتباع دين الحق والمجتهدين والمصلحين من تسلط وعدوان قوى التخلف والجهلوت العاتية، بل هي التي تحمي أتباع المذاهب الضالة من شرور أنفسهم ومن سيئات أعمالهم ومن عواقب جهلهم وتخلفهم وهطلهم وعتههم وخبلهم.
وبمعنى عام فإن هذا المصطلح يشير إلى الرأي القائل بأن الأنشطة البشرية والقرارات وخصوصًا السياسية منها يجب أن تكون غير خاضعة لتأثير المؤسسات الدينية.
*******
إن المقصود بالمدنية أن تكون منظومة المبادئ السائدة وكذلك القوانين التي تنظم العلاقات بين العناصر المكونة للشعب وفقاً للتراضي والاتفاق العام بين كل تلك العناصر؛ فهي لا تكون علاقة قهر وتسلط وإلزام أحد الأطراف بأحكام الصغار ولا معاملة أفراد أحد الأطراف كمواطنين من الدرجة الثانية، وأسمى صور المدنية هي ما يكون تمثيلاً وتجسيداً للمنظومة المعنوية الإسلامية.
والمدنية بذلك ستستوعب أفضل ما في العلمانية، فهي ستحمي المسلمين مثلاً من خطورة التناحر المذهبي ومن خطورة تسلط أتباع أحد المذاهب، وهي ستحمي الجميع من تسلط الأجهزة الكهنوتية.
*******
يزعم السلفية أن ما يواجه العالم المسمى بالإسلامي من مشاكل هو بسبب سيادة النظم المسماة ظلمًا بالعلمانية، فهل كان هذا العالم عزيزا قويا غالبا قبل أن يعرفوا أصلا تلك الكلمة؟ وهل النظم السلفية أفضل حالاً من النظم المحسوبة على العلمانية، وهل كانت العلمانية هي السبب في كل ما حاق بالنظم المحسوبة عليها من هزائم ونكسات، ولماذا لم تتقدم النظم السلفية لسحق أعداء الإسلام؟ بل لماذا تآمروا مع أعداء الأمة ضد تلك النظم المسكينة التي حاولت أن تتصرف بنزاهة وشرف وتتصدى لمن اعتدوا على شرف الأمة؟ ولماذا لم يضعوا أبدًا خطة جادة للثأر للأمة واستعادة حقوق أبنائها الذين هم إخوانهم في الدين والعروبة؟ ولماذا لا يظهرون شراستهم إلا ضد من خالفهم من المسلمين؟ إن الأمة ليست بحاجة إلى دروس من السلفية ولكنها أحوج إلى أن يكفوا عنها شرهم.
وإذا كان سدنة السلفية يتذرعون بأن مذهبهم يلزمهم بالخضوع لمن تسلط عليهم وإن فسق وظلم وفجر وقتل ثلث الرعية فليس ثمة فيه ما يمنعهم من أمر هؤلاء بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ونهيهم عن موالاة أعداء الإسلام والعروبة، وليس ثمة ما يمنعهم من أن يطلبوا منهم ألا يدفعوا الجزية لقادة الغرب وهم يرقصون وتحت نعالهم يتمرغون، وهم يعلمون جيدًا أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
ويجب العلم بأنه في ظل نظام السادات ومبارك العلماني تم فتح الباب على أوسع نطاق للغزو الوهابي المتخلف وضرب هذا المذهب الجهلوتي في كل شيء وأفسد كل شيء، وأعاد الناس على المستوى النفسي إلى ما قبل العصر الحجري، والأمة الآن تنفق المليارات للتخلص من آثار ذلك.
*******
إن علمانية الغرب توفر للمحسوبين على الإسلام المزايا الآتية:
1- للذي يعيش هناك كافة حقوق الإنسان وحقوق المواطنة مثله مثل غيره.
2- له أيضًا ولأبنائه حق الحصول على جنسية البلد الغربي بكل سهولة، وهذا هو المستحيل بعينه في كل الدول المسماة بالإسلامية، ومن الجدير بالذكر مثلا أن الكثير من المصريين يرفضون منح الجنسية المصرية للظاهر بيبرس وللملك المصري فاروق الأول!!!
3- توفر له أحدث ما وصل إليه التقدم الإنساني الحضاري على كافة المستويات.
4- توفر له مستوى معيشة مقبول حتى ولو كان بدون عمل أو فقد عمله.
5- تحميه من شر أتباع الديانات الأخرى.
6- تحميه من شر من يعتنقون أي مذهب آخر من المذاهب المحسوبة على الإسلام.
7- تلزم أتباع شتى الديانات والمذاهب بالتعايش السلمي.
8- توفر له كافة حقوقه القانونية.
9- تسمح للمحسوب على الإسلام بممارسة دينه طبقا لما يرتضيه وبالدعوة إليه.
10- لا تسمح بصفة عامة بإشعال حروب على أساس ديني.
11- لا تسمح بشن أي حروب إبادة على أساس ديني.
12- لا تسمح بصفة عامة بأي انتهاك لحقوق الإنسان أو القانون الدولي، ولو على المستوى الظاهري.
13- لا تسمح بشنّ حروب صليبية جديدة على المسلمين.
وليس معنى كل ذلك أن العلمانية هي النظام الأمثل، بل إن دين الحق هو أفضل منها بكثير، ولكنه غريب، وألد أعدائه هم سدنة المذاهب التي حلت محله وكافة مظاهر وتجسدات الجهل والانحطاط والتخلف وهم أكثر المحسوبين عليه؛ فهم العقبة الكؤود التي تحول دون ظهوره.
*******
1