top of page

نظرات في المذاهب

45

المفهوم

المفهوم

قالوا: ((المراد بالمفهوم المعنى اللازم للفظ مما لم يصرح به، أو المعنى الذي دل عليه اللفظ في غير محل النطق، أي هو دلالة اللفظ على حكم شيء لم يذكر في النص، ولم ينطق به))

والحق أن المفهوم من اللفظ يشمل كل المعاني التي يمكن أن يعطيها هذا النصّ، والتي يمكن أن تتكشف للناس، وإنما يتدرج وضوح المفاهيم لهم، فمنها ما يدركونه بمجرد تلاوة النص عليهم، ومنها ما يدركه بعضهم بشيء من النظر والتدبر، أو غير ذلك من أسس المنهج القرءاني.

*****

أنواع المفهوم

على نوعين:

أولا: مفهوم الموافقة

هو كون المعنى المسكوت عنه موافقًا في الحكم للمنطوق به، وهذا مفهوم موافقة لأن الحكم المفهوم من النص موافق للمنطوق به منه؛ أي موافق للمعنى المتبادر منه، وهذا من باب دلالة مفهوم الموافقة.

مفهوم الموافقة هو المعنى الثابت للمسكوت عنه الموافق لما ثبت للمنطوق؛ لكون المسكوت أولى بالحكم من المنطوق أو مساويا له.

وهو يُسمَّى أيضا تنبيه الخطاب، وفحوى الخطاب، ومفهوم الخطاب. ويقابله دلالة النص أو دلالة الدلالة عند الأحناف.

فمفهوم الموافقة هو إعطاء ما ثبت للفظ من الحكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى والأحرى سواء كان ذلك الحكم المنطوق به منهيا عنه أو موجبا.

***

مفهوم الموافقة على نوعين: مفهوم موافقة أولوي ومفهوم موافقة مساوي.

ومثال المفهوم الأولى قوله تعالى: 

{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء23]،

 فإنه يدل بطريق الأولى على تحريم الضرب والشتم.

مثال مفهوم الموافقة المساوي في الحكم للمنطوق به: قوله تعالى 

{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]

فهذه الآية تدل على تحريم الأكل بمنطوقها وتدل على تحريم كل ما فيه تفويت لمال اليتيم عن طريق مفهوم الموافقة المساوي، فلا يجوز التصدق بمال اليتيم ولا إنفاقه في الجهاد ونحوه.

ومفهوم الموافقة حجة عند جميع الأئمة، وخالف فيه الظاهرية ولا يلتفت إلى خلافهم.

وقد يظن البعض أن مفهوم الموافقة قطعي الدلالة، والصواب أنه قد يكون قطعيا كالمثالين السابقين، وقد يكون ظنيا، كقولهم: إذا ردت شهادة الفاسق فالكافر من باب أولى.

وإنما قلنا إنه ظني لأنه لا يبعد أن ترد شهادة الفاسق؛ لأنه متهم بالكذب لا ترد شهادة الكافر لكونه يحترز عن الكذب، والراجح رد شهادة الكافر.

وقد يكون ضعيفا كقول الشافعية: تجب الكفارة في قتل العمد لوجوبها في قتل الخطأ من باب أولى، وذلك لأن الكفارة وجبت في قتل الخطأ لقلة الجرم، وأما القتل العمد فإن الكفارة لا تكفره لكونه جُرما عظيما لا يكفره إلا القود.

فالمعنى المستنبط بالفهم، يكون موافقا في الحكم للمعنى المنطوق به.

ومن الواضح أن مسألة مفهوم الموافقة المساوي مفتعلة، وأنهم حاولوا عبثًا إثباته، فتبديد مال اليتيم أو إحراقه هو أخطر بكثير من أكله، فهو عدوان على الأمة كلها، وليس على اليتيم فقط، وهو لذلك محرم بنصوص قوية قطعية الدلالة، بل هو محرم في كل القوانين الوضعية دون حاجة إلى مفهوم الموافقة المساوي ولا إلى القياس.

*****

المفهوم: هو ما قابل المنطوق، وهو معنى دل عليه اللفظ لا في محل النطق. أي هو دلالة اللفظ على حكم شيء لم يذكر في النص، ولم ينطق به.

والحكم المستفاد عن طريق المفهوم، قد يكون موافقا لحكم المنطوق، نفيا وإثباتا، ويسمونه بمفهوم الموافقة وقد يكون مخالفا له في ذلك، ويسمونه بمفهوم المخالفة.

*****

وفي الحقيقة ما يسمونه بالمنطوق هو أول مفهوم للنص The text، أو المعنى الأولي أو المباشر له، والنصّ يسمونه بالخطاب لكونهم يستعملون النص بمعنى اصطلاحي آخر.

أما ما يسمونه صراحة بمفهوم أو فحوى النص، فهو المفهوم التالي أو الثانوي له (الثانوي من الثاني لكون المباشر هو أول مفهوم يتبادر إلى الذهن)، وبالطبع يمكن أن تتعدد المفاهيم الثانوية لنفس النصّ.

أقسامه:

دلالة الأوْلى (فحوى الخطاب)

وهو ما كان المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق، لظهور المعنى، وتنبه الذهن له عند فهم مدلول الخطاب.

قالوا: ((ومثاله قوله تعالى في شأن الوالدين: 

{فلا تقل لهما أف}،

 فالمولى رب العزة نهى عن التأفف، أي التضجر في وجه الوالدين، وهذا ما يدل عليه منطوق الآية، وأما حكم ضربهما -وهو غير المذكور في الآية- فهو أولى بالتحريم لأنه أبلغ في إيذائهما، وهو أمر مسكوت عنه)).

من أعجب الأمور قولهم إن ضرب الوالدين أمر مسكوت عنه!!!!! والمشكلة هي أنهم لا يريدون أن يمدوا بصرهم ولو قليلا إلى العبارة التي ورد هذا النهي في سياقها، وما يسمونه بالأمر المسكوت عنه إنما هو متضمن في الإحسان إلى الوالدين والنهي عن نهرهما، وهما مذكوران في نفس الآية، وكذلك في الأمر بخفض جناح الذل من الرحمة لهما في الآية التالية مباشرة.

ولدلالة الأوْلى أقسام

1. حالة يرد فيها التنبيه من جهة اللفظ بالأدنى على الأعلى، ومثاله هو المذكور سابقا؛ التأفف والضرب.

2. حالة يرد فيها التنبيه من جهة اللفظ بالأعلى على الأدنى، ومثاله قوله تعالى: 

{ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما}،

 فالمسكوت عنه وهو الدرهم والدينار أولى في تأديتهم له من القنطار الذي دل المنطوق على انهم يؤدونه

وهذا المثال يدل على أن هؤلاء الأصوليين كانوا مولعين بضرب الأمثلة الخاطئة وتجاهل الأساليب البلاغية، إنه لا يوجد حكم هاهنا ليتم إعمال مفهوم الأولى لاستخراجه، والنصّ يعبر بأسلوب بليغ معلوم للعرب ولغيرهم عن حالة أهل الكتاب، ولكن يبدو أن العجم كانوا يقصرون القرءان على المعاني الحرفية الدارجة، ثم يعتبرون أي خروج عن ذلك يتم بموجب قاعدة لابد لهم أن يضعوا لها اسمًا!

*****

دلالة المساواة (لحن الخطاب)

وهو الذي يكون المسكوت عنه فيه مساويًا للمنطوق به في الحُكم؛ لتساويهما في العلة.

قالوا: ((مثال لحن الخطاب الحكم من قوله تعالى: 

{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا، وسيصلون سعيرا}،

 فالحكم طبقًا للحن الخطاب هو تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه نظرًا للمعنى أي العلة. فهو مساو لتحريم الأكل لمساواة الإحراق للأكل في الإتلاف)).

وهذا دليل آخر على افتعالهم وإسرافهم على أنفسهم للتكثير من مادة قواعدهم، أم كيف يجعلون إحراق مال اليتيم مساويًا لأكله ظلما؟ هل يمكن أن يقول إنسان سوي بذلك؟ ألم يجرم هذا الحارق في حقّ الأمة؟ ألم يبدد مال غيره وهو منهي قرءانيا عن التبذير أو الإسراف في ماله الخاص؟! افترض أن رجلا يعمل أمينًا لخزينة مال، هل يمكن التسوية بين أن يأخذ هذا الرجل لنفسه شيئا مما في الخزينة من مال وبين أن يقوم بحرق هذا المال؟!!! ألا يوجد نهي قوي عن خيانة الأمة وعن قهر اليتيم وأمر قوي بتأدية الأمانات إلى أهلها؟

وقيل أن لحن الخطاب هو دلالة الاقتضاء (لأن اللحن يأتي بمعنى الفطنة) كما قوله صلى الله عليه وسلم :" فلعل بعضهم أن يكون ألحن بحجته من بعض".

ودلالة النص عند الأحناف: دلالة النص (دلالة الدلالة، فحوى الخطاب) عند الأحناف يقابلها عند المتكلمين مفهوم الموافقة؛ وهي تأتي عندهم في المرتبة الثالثة بعد العبارة والإشارة.

فالثابت بدلالة النص هو ما ثبت بمعنى النص لغة لا اجتهادًا ولا استنباطا ولا قياسا.

فالأحناف والجمهور يلتقون في أن دلالة النص هي ثبوت حكم المنطوق للمسكوت عنه لاشتراكهما في معنى يدرك بمجرد فهم اللغة دون حاجة إلى بحث أو اجتهاد، فهذه الدلالة مرتبطة باللغة عن طريق المعنى بدلالة سياق الكلام ومقصوده، وليس عن طريق العرف.

وهذه الدلالة تحتاج إلى بعض تبصر وتأمل لا إلى كثير من الاجتهاد.

فالعلة في دلالة النص بيّنة واضحة بمجرد اللغة (أساسها لغوي)، في حين أن القياس لا تدرك علته إلا بالاجتهاد، أي إن أساسه عقلي، فالعلة في دلالة النص شرط في تناول المعنى اللغوي لأفراده وليست شرطا لثبوت الحكم في غير المنطوق، بخلاف علة القياس فهي شرط لثبوت الحكم في الفرع.

1

bottom of page