قصص الأنبياء
يوسف عليه السلام
يوسف هو ابن يعقوب من راحيل، وهو أحب أولاده إليه، وهو والد أحد الأسباط أي القبائل العبرانية، بل أصبح بالأحرى والد ما أصبح من بعد سبطين؛ إفرايم ومنسَّى، وسبط إفرايم سيكون كثير العدد حتى يغلب اسمه على أسماء الأسباط العشرة الذين أسسوا مملكة إسرائيل في شمال فلسطين.
وللمفسرين أقوال كثيرة منقولة عن اليهود في تفسير معنى "يوسف"، ولكن القرءان يقدم معناها في آيتين من آياته هما:
{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (69) يوسف،
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99)} يوسف
فمعنى الاسم "يوسف" هو: "الذي يؤوي".
وقد رأى يوسف رؤيا بشرته بسيادته على إخوته وعلو درجته، حـيث رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين، أمره أبوه أن يكتمها عنهم ففعل، ولكن أباه هو الذي لم يتمكن من إخفاء حبه الشديد له وإيثاره له على إخوته، فالأنبياء هم بشر، لهم أيضا ميولهم الخاصة، قد يفضل أحدهم إحدى زوجاته على الأخريات، أو أحد أبنائه عليهم أجمعين، وهذا التفضيل يكون له أسبابه الحقانية، ومهما حاول إخفاء مشاعره فلابد أن يصدر عنه ما يكشف الأمر، ولذلك هم أيضا معرضون للابتلاء بسبب ذلك! فتعلق يعقوب الزائد بابنه الذي أثار حفيظة إخوته كان من أسباب ابتلائه، والنبي قد يُبتلى، ولكنه عادة ينجح في الصبر وفي اجتياز الابتلاء.
وحبُّ يعقوب لابنه يوسف كان لعلمه بمدى سمو نفسه والمكانة الرفيعة المقدرة له، ولكن إخوة يوسف لم يكن لهم علم بشيء من ذلك! وقد ضاقوا ذرعا بما كان يظهر عرضا من يعقوب مما يشير إلى تفضيله عليهم، وكذلك من خوفه الشديد عليه منهم، فقرروا وضع حدًّ لكل ذلك، فتآمروا على يوسف، وألقوه في جُبّ، وحمله بعض السيارة إلى مصر وباعوه بثمن بخس، اشتراه أحد المتنفذين في مصر، تبناه وربَّاه وأكرم مثواه، شغفت به زوجته التي كانت بمثابة أمه، وراودته عن نفسه فأبى واستعصم، فاتهمته ظلمًا بأنه أراد بها سوءا، وتطورت الأمور من بعد، فلم يجدوا إلا أن يلقوه في السجن ظلما.
أطلقوا عليه اسما مصريا هو: صَفْنَاتَ فَعْنِيح (وهو تحريف لجملة مصرية قديمة معناها: يتكلم الإله، وهو يحيا)، والذي يذكره سفر التكوين أن الذي أطلق عليه هذا الاسم هو ملك مصر نفسه من بعد.
وهناك لفت سموه الخلقي الناس، ندد بما هم عليه من شرك، ودعاهم إلى عبادة الله وحده، وذاعت شهرته مفسراً للرؤى، فسَّر لصاحبيه في السجن ما رآه كل منهما في منامه، استوزره ملك مصر بعد أن أوَّل له رؤيا رآها بل وأرشده إلى كيفية معالجة أمر المجاعة المرتقبة، فقد اقترح عليه تخزين الحبوب في سنين الشبع لتحاشي المجاعة، فعينه رئيسا لمخازنه وهو منصب يماثل منصب وزير التموين في العهد الحاضر.
لم يتزوج يوسف عليه السلام "زليخة" كما يزعمون! وإنما تزوج من أَسْنَاتَ بِنْتَ فُوطِي فَارَعَ كَاهِنِ أُونَ (عين شمس)، و"فوطي فارع" أي: عطية رع إله الشمس، فأنجب منها منَسَّى وإفرايم، وكل هذه الأسماء هي حجج تقوض مزاعم القائلين بأن قصة يوسف حدثت في عهد الهكسوس، التزم يوسف بكل عادات وتقاليد المصريين فكان حليق الذقن ملتزما بزيهم التقليدي، وقد أمر بتحنيط والده يعقوب وفق المراسم المصرية، وهذا ما حدث معه هو أيضًا.
كما يزعم اليهود في كتابهم أن يوسف قد خدع ملك مصر ولقَّن أسرته أن يقولوا له إنهم أَهْلَ مَوَاشٍ وأنهم ليسوا رعاة غنم مع أنهم كانوا في الحقيقة رُعَاةُ غَنَمٍ، ذلك لأَنَّ كُلَّ رَاعِي غَنَمٍ رِجْسٌ لِلْمِصْرِيِّينَ، فالمصريون القدماء كانوا يكرهون رعاة الغنم بشدة ويعتبرونهم رجسا لأسباب معلومة، فقد كان المصريون القدماء مولعين بالنظافة والنظام والتناسق، كما أنهم ذاقوا الأمرين من حكم الرعاة الهكسوس، ويكاد يتلخص تاريخ مصر القديمة في الدفاع عن مصر ضد البدو رعاة الأغنام، أما الرجل الطيب فرعون!!! بالأحرى الملك المعاصر ليوسف، فقال له: "فِي أَفْضَلِ الأَرْضِ أَسْكِنْ أَبَاكَ وَإِخْوَتَكَ، لِيَسْكُنُوا فِي أَرْضِ جَاسَانَ. وَإِنْ عَلِمْتَ أَنَّهُ يُوجَدُ بَيْنَهُمْ ذَوُو قُدْرَةٍ، فَاجْعَلْهُمْ رُؤَسَاءَ مَوَاشٍ عَلَى الَّتِي لِي".
وتسمية اليهود له بفرعون يدل على أن اسمه إما أنه لم يكن مذكورًا في الأصل، وإما أن كتبهم قد فقدت وأعيد كتابتها، كما حدث عدة مرات، وأن اليهود عندما أعادوا كتابة وإعادة تجميع كتابهم بعد أن فقدوه أطلقوا عليه هذا الاسم الذي لم يكن شائعًا إلا في عصور متأخرة من التاريخ المصري القديم.
جاء في سفر التكوين 46
31ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ لإِخْوَتِهِ وَلِبَيْتِ أَبِيهِ: «أَصْعَدُ وَأُخْبِرُ فِرْعَوْنَ وَأَقُولُ لَهُ: إِخْوَتِي وَبَيْتُ أَبِي الَّذِينَ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ جَاءُوا إِلَيَّ. 32وَالرِّجَالُ رُعَاةُ غَنَمٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ مَوَاشٍ، وَقَدْ جَاءُوا بِغَنَمِهِمْ وَبَقَرِهِمْ وَكُلِّ مَا لَهُمْ. 33فَيَكُونُ إِذَا دَعَاكُمْ فِرْعَوْنُ وَقَالَ: مَا صِنَاعَتُكُمْ؟ 34أَنْ تَقُولُوا: عَبِيدُكَ أَهْلُ مَوَاشٍ مُنْذُ صِبَانَا إِلَى الآنَ، نَحْنُ وَآبَاؤُنَا جَمِيعًا. لِكَيْ تَسْكُنُوا فِي أَرْضِ جَاسَانَ. لأَنَّ كُلَّ رَاعِي غَنَمٍ رِجْسٌ لِلْمِصْرِيِّينَ».
وفي الإصحاح 47
1فَأَتَى يُوسُفُ وَأَخبَرَ فِرْعَوْنَ وَقَالَ: «أَبِي وَإِخْوَتِي وَغَنَمُهُمْ وَبَقَرُهُمْ وَكُلُّ مَا لَهُمْ جَاءُوا مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ، وَهُوَذَا هُمْ فِي أَرْضِ جَاسَانَ». 2وَأَخَذَ مِنْ جُمْلَةِ إِخْوَتِهِ خَمْسَةَ رِجَال وَأَوْقَفَهُمْ أَمَامَ فِرْعَوْنَ. 3فَقَالَ فِرْعَوْنُ لإِخْوَتِهِ: «مَا صِنَاعَتُكُمْ؟» فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: «عَبِيدُكَ رُعَاةُ غَنَمٍ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا جَمِيعًا». 4وَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: «جِئْنَا لِنَتَغَرَّبَ فِي الأَرْضِ، إِذْ لَيْسَ لِغَنَمِ عَبِيدِكَ مَرْعًى، لأَنَّ الْجُوعَ شَدِيدٌ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ. فَالآنَ لِيَسْكُنْ عَبِيدُكَ فِي أَرْضِ جَاسَانَ».5فَكَلَّمَ فِرْعَوْنُ يُوسُفَ قَائِلاً: «أَبُوكَ وَإِخْوَتُكَ جَاءُوا إِلَيْكَ. 6أَرْضُ مِصْرَ قُدَّامَكَ. فِي أَفْضَلِ الأَرْضِ أَسْكِنْ أَبَاكَ وَإِخْوَتَكَ، لِيَسْكُنُوا فِي أَرْضِ جَاسَانَ. وَإِنْ عَلِمْتَ أَنَّهُ يُوجَدُ بَيْنَهُمْ ذَوُو قُدْرَةٍ، فَاجْعَلْهُمْ رُؤَسَاءَ مَوَاشٍ عَلَى الَّتِي لِي»7ثُمَّ أَدْخَلَ يُوسُفُ يَعْقُوبَ أَبَاهُ وَأَوْقَفَهُ أَمَامَ فِرْعَوْنَ. وَبَارَكَ يَعْقُوبُ فِرْعَوْنَ. 8فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِيَعْقُوبَ: «كَمْ هِيَ أَيَّامُ سِنِي حَيَاتِكَ؟» 9فَقَالَ يَعْقُوبُ لِفِرْعَوْنَ: «أَيَّامُ سِنِي غُرْبَتِي مِئَةٌ وَثَلاَثُونَ سَنَةً. قَلِيلَةً وَ رَدِيَّةً كَانَتْ أَيَّامُ سِنِي حَيَاتِي، وَلَمْ تَبْلُغْ إِلَى أَيَّامِ سِنِي حَيَاةِ آبَائِي فِي أَيَّامِ غُرْبَتِهِمْ». 10وَبَارَكَ يَعْقُوبُ فِرْعَوْنَ وَخَرَجَ مِنْ لَدُنْ فِرْعَوْنَ.11فَأَسْكَنَ يُوسُفُ أَبَاهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَعْطَاهُمْ مُلْكًا فِي أَرْضِ مِصْرَ، فِي أَفْضَلِ الأَرْضِ، فِي أَرْضِ رَعَمْسِيسَ كَمَا أَمَرَ فِرْعَوْنُ. 12وَعَالَ يُوسُفُ أَبَاهُ وَإِخْوَتَهُ وَكُلَّ بَيْتِ أَبِيهِ بِطَعَامٍ عَلَى حَسَبِ الأَوْلاَدِ.
ويُلاحظ أنه أسكنهم في أرض رعمسيس، وليس في أرض قورش وليس في عسير كما يزعم من يؤمنون بتاريخية التوراة ثم يكذبونها في كل شيء!!
وهذا القول يبين تماما ما يلي:
1. أن الكلام هو عن المصريين كأمة زراعية عريقة عانت كثيرا من عدوان الرعاة.
2. أن الكلام لا يمكن أن يكون عن الهكسوس؛ ملوك الرعاة.
وبالطبع فإن القول "في أَرْضِ رَعَمْسِيسَ" هنا يكشف عن أن هذا الكلام أعيدت كتابته، وأن الكاتب أضافها من عنده، فهو يطلق على بعض شرق الدلتا الاسم الذي سيسمَّى به من بعد! وكذلك يطلق على ملك مصر اسم فرعون، وهو الاسم الذي أصبح لقبا لملوك مصر في العصر المتأخر، فهم لم يكونوا يعرفون الأسماء الحقيقية للملوك الذين يتحدث عنهم كتابهم.
ويورد العهد القديم؛ تكوين 12: 10 سبب قدوم إبراهيم إلى مصر؛ وهو حدوث مجاعة في الأرض.
10وَحَدَثَ جُوعٌ فِي الأَرْضِ، فَانْحَدَرَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ، لأَنَّ الْجُوعَ فِي الأَرْضِ كَانَ شَدِيدًا.
ويتكرر نفس الموقف مع يعقوب عليه السلام، فيذكر سفر التكوين على لسان يعقوب: "إني قد سمعت أنه يوجد قمح في مصر، انزلوا إلى هناك" ومن الواضح تماما أن مراسم التحنيط وفقا للتقاليد المصرية قد روعيت بدقة مع يعقوب بعد أن تُوفي، والعهد القديم يورد تفاصيل لم تكن معروفة قبل العصر الحديث.
تولى يوسف عليه السلام مُلك المقاطعة المصرية إلى الغرب من سيناء، وكان مقره مدينة حصينة في شرق الدلتا، كنائب للملك الكبير أمنحتب الثالث في العاصمة، هي التي ستكون عاصمة لمصر في عهد الرعامسة.
كان أمنحتب هذا من أكبر ملوك مصر في الزمن القديم، ومن أعظم ملوك مصر على الإطلاق، كانت الإمبراطورية المصرية قد بلغت في عهده أوج اتساعها، وتدفق على العاصمة الخيرات.
ثم حضر إخوة يوسف من بادية سيناء، بين رفح والعريش، وكانت بالطبع جزءا من الإمبراطورية المصرية في عهد الأسرة 18، لذلك كان التنقل سهلا بين باديتهم وبين شرق الدلتا المتاخم لسيناء.
لذلك كان من حقهم أن يأتوا إلى مصر طالبين التزود بالمؤن في أزمنة المجاعات التي كانت كثيرا ما تجتاح الشرق الأوسط في الزمن القديم أتوا في العير كما ذكر القرءان، والأصل فيها أنها اسم للإِبل التي تحمل الميرة، وليس على ظهور الحمير كما ورد في توراة اليهود، فالحمير حيوانات حضرية ليست للتنقل ولا لنقل الميرة عبر الصحاري، جاء في سفر التكوين، الإصحاح 43:
18فَخَافَ الرِّجَالُ إِذْ أُدْخِلُوا إِلَى بَيْتِ يُوسُفَ، وَقَالُوا: «لِسَبَبِ الْفِضَّةِ الَّتِي رَجَعَتْ أَوَّلاً فِي عِدَالِنَا نَحْنُ قَدْ أُدْخِلْنَا لِيَهْجِمَ عَلَيْنَا وَيَقَعَ بِنَا وَيَأْخُذَنَا عَبِيدًا وَحَمِيرَنَا».
23فَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكُمْ، لاَ تَخَافُوا. إِلهُكُمْ وَإِلهُ أَبِيكُمْ أَعْطَاكُمْ كَنْزًا فِي عِدَالِكُمْ. فِضَّتُكُمْ وَصَلَتْ إِلَيَّ». ثُمَّ أَخْرَجَ إِلَيْهِمْ شِمْعُونَ. 24وَأَدْخَلَ الرَّجُلُ الرِّجَالَ إِلَى بَيْتِ يُوسُفَ وَأَعْطَاهُمْ مَاءً لِيَغْسِلُوا أَرْجُلَهُمْ، وَأَعْطَى عَلِيقًا لِحَمِيرِهِمْ. 25وَهَيَّأُوا الْهَدِيَّةَ إِلَى أَنْ يَجِيءَ يُوسُفُ عنْدَ الظُّهْرِ، لأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُمْ هُنَاكَ يَأْكُلُونَ طَعَامًا.
طلبوا ما يقيهم وأهلهم شر الموت جوعا فعرفهم، ولم يعرفوه، وهذا هو الأمر الطبيعي، فقد تغير مظهره كثيرا، وظهرت عليه نضرة النعيم، ولم يكن اسمه يوسف، أما هم فكانوا محتفظين بأشكالهم البدوية التقليدية.
حملهم على إحضار شقيقه بنيامين، تعرضوا بذلك لمحنة غير مفهومة لهم وغير متوقعة، ولكنهم أذعنوا وأتوه بشقيقه.
بعد أن كشف لهم عن نفسه أعلن لهم صفحه عنهم وأمرهم بإحضار أبويه من البدو، وهذا ما ورد في القرءان:
{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)} يوسف
ثم يكمل القرءان القصة التي وصفها بأحسن القصص:
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)} يوسف
وهكذا دخلوا مصر آمنين وآواهم إليه وأكرم وفادتهم ووطنهم أرض جاسان في الشمال الشرقي لمصر حيث كان يقيم هو كنائب لملك مصر على هذه المنطقة.
وكذلك تحقق تأويل الرؤيا وتعلموا جميعا بالبيان العملي شيئا عن الأسماء الإلهية وأعلن يوسف عن المثنى الذي يربه ويدبر أمره، ألا وهو "الْعَلِيمُ الْحَكِيم"، وكما بدأت القصة بهذا المثنى فقد انتهت أيضاً به، والحق هو أن القصة كلها كانت لبيان بعض تجلياته، اقرأ الآيات التي تحدد مراحل أحسن القصص:
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم} [يوسف:6]
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم} [يوسف:83]
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم} [يوسف:100]
أخذ يوسف يدعو إلى ديانته ويقدم للناس البراهين والحجج فآمن له بعض أهل بيت الملك نفسه، ولم يثر ذلك وقتها لغطا حيث كان بلاط الملك أمنحتب الثالث يعج بالأجانب من الآسيويين الساميين والآريين، وكان مسموحا لهم بالاحتفاظ بدياناتهم.
*****
جاء يوسف إلى مصر في عهد الأسرة 18، وبالتحديد في عصر أمنحتب الثالث (1391-1353 ق. م. حسب كلام المؤرخين علما بأن هذه التواريخ يحوطها قدر كبير من الشك)، وبأخذ موضوع الأخطاء في التواريخ المشار إليه في الاعتبار يتبين أن عصر أمنحتب الثالث يمتد من 1526 إلى 1488 ق.م.، وقد خرجوا في عهد الأسرة 20، كان ذلك في عهد رعمسيس الثامن ابن رعمسيس الثالث، كان الخروج في حوالي سنة 1244 ق.م. وبذلك تكون مدة إقامتهم في مصر حوالي 251 سنة مما يبرر احتفاظهم بلغتهم الأصلية والتي لم يتمكن موسى من إجادتها إجادة تامة لنشأته في بيت الملك وتلقيه تعليمًا مصريًّا رفيعا فيه.
والذي جاء عن تسمية يوسف في التوراة هو في سفر التكوين إصحاح 41 كما يلي:
41ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: «انْظُرْ، قَدْ جَعَلْتُكَ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ». 42وَخَلَعَ فِرْعَوْنُ خَاتِمَهُ مِنْ يَدِهِ وَجَعَلَهُ فِي يَدِ يُوسُفَ، وَأَلْبَسَهُ ثِيَابَ بُوصٍ، وَوَضَعَ طَوْقَ ذَهَبٍ فِي عُنُقِهِ، 43وَأَرْكَبَهُ فِي مَرْكَبَتِهِ الْثَّانِيَةِ، وَنَادَوْا أَمَامَهُ «ارْكَعُوا». وَجَعَلَهُ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ. 44وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: «أَنَا فِرْعَوْنُ. فَبِدُونِكَ لاَ يَرْفَعُ إِنْسَانٌ يَدَهُ وَلاَ رِجْلَهُ فِي كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ».
45وَدَعَا فِرْعَوْنُ اسْمَ يُوسُفَ «صَفْنَاتَ فَعْنِيحَ»، وَأَعْطَاهُ أَسْنَاتَ بِنْتَ فُوطِي فَارَعَ كَاهِنِ أُونَ زَوْجَةً. فَخَرَجَ يُوسُفُ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ. 46وَكَانَ يُوسُفُ ابْنَ ثَلاَثِينَ سَنَةً لَمَّا وَقَفَ قُدَّامَ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ. فَخَرَجَ يُوسُفُ مِنْ لَدُنْ فِرْعَوْنَ وَاجْتَازَ فِي كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ.
47وَأَثْمَرَتِ الأَرْضُ فِي سَبْعِ سِنِي الشِّبَعِ بِحُزَمٍ. 48فَجَمَعَ كُلَّ طَعَامِ السَّبْعِ سِنِينَ الَّتِي كَانَتْ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَجَعَلَ طَعَامًا فِي الْمُدُنِ. طَعَامَ حَقْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي حَوَالَيْهَا جَعَلَهُ فِيهَا. 49وَخَزَنَ يُوسُفُ قَمْحًا كَرَمْلِ الْبَحْرِ، كَثِيرًا جِدًّا حَتَّى تَرَكَ الْعَدَدَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَدَدٌ.
ويُلاحظ أيضًا القول "وَجَعَلَ طَعَامًا فِي الْمُدُنِ. طَعَامَ حَقْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي حَوَالَيْهَا جَعَلَهُ فِيهَا"، فالحديث هو عن كيان ضخم يضم مدنا أو مدائن، وهذا ما صدقه القرءان عندما قال:
{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)} الأعراف، {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)} الشعراء، {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)} الشعراء
فمصر كانت تضم عددا هائلا من المدن أو المدائن، ولم تكن مجرد "محطة تجارية" أو "قرية صغيرة" في عسير، والقرءان يستعمل صيغة مُنتهى الجموع (جمع الجموع) للتعبير عما كان في مصر من المدن، وصيغة مُنتهى الجموع هي كل جمع بعد ألف تكسيره حرفان أو ثلاثة، وهذا يبين إعجاز القرءان، وقد بيَّنت الكشوف الحديثة بالأشعة عن وجود أعداد هائلة بالفعل من المدن في مصر القديمة يفوق ما هو معلوم أو متوقع، وفي ذلك أيضًا دحض تام وحاسم لأباطيل المخرفين الجدد الذين يزعمون أن مصر القرءان والتوراة هي قرية ضئيلة في عسير!
ودليل آخر في القول: "وَوَضَعَ طَوْقَ ذَهَبٍ فِي عُنُقِهِ"، فهذا تقليد مصري عريق وثابت ومعلوم بالضرورة عن المصريين، وقد أشار إليه القرءان في القول الذي حكاه عن فرعون:
{فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)} الزخرف
وهذا دليل حاسم يقوض تماما مزاعم المخرفين الجدد.
ومجمل الكلام يتحدث عن بلد عريق في الزراعة، هذا البلد له تنظيم إداري جيد، وله خزائن معلومة، وكلمة "خزائن" تبين أيضًا ضخامة هذا الكيان، والتعبير "خَزَائِنِ الْأَرْضِ" يؤكد ذلك، قال تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام:
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} يوسف
هذا مع العلم أن كلمة "خَزَائِن" ترد في القرءان مضافة إلى الله أو إلى سمة من سماته أو شأن من شؤونه أو إلى "السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، وهذه الكلمة واردة في صيغة منتهى الجموع، وفي ذلك إشارة إلى العدد الهائل للخزائن، وذلك يقوض تماما مزاعم من قالوا إن "مصر" القرءانية كانت قرية صغيرة تائهة في عسير أو في أي مكان آخر، فمن البديهي أن قرية عسير المقيمة في خيال المخرف الصليبي لا تحقق شيئا من هذه الشروط.
كان إخناتون ممن آمن برسالة يوسف عليه السلام، ولما تُوفِّي يوسف دُفِن في عاصمة مصر أيام إخناتون، أي في محافظة المنيا الآن، وليس صحيحًا أن بني إسرائيل حملوا جثمانه معهم عند فرارهم من مصر.
*******
1