نظرات في المذاهب
29
قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
الحق هو أنه يجب التعامل مع القرءان ككتاب علمي، وليس ككتاب تاريخي تراثي، ومن يقرأ كتب أهل الكتاب، ثم يقارنها بالقرءان يجد أن القرءان هو أقل الكتب احتفالا بأسماء الأشخاص وقصصهم، وخاصة من المعاصرين للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، لم يذكر القرءان إلا اسم "زيد" فقط، أما الآخرون فقد ذكرهم بصفاتهم الغالبة وأفعالهم، هذا في حين يورد الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد ما لا حصر له من الأسماء، ومع ذلك فالمحسوبون على الإسلام هم أشد الناس ولعًا بأسماء أهل القرن الأول وطلبًا لها وتقديسًا لها، وكان ذلك من وسائل الشيطان لتكريس الشرك والنفاق في نفوس المحسوبين على الإسلام.
ومن يقرأ كتابا علميا يتعامل مع حقائق علمية ولا يعنيه تاريخ تطور العلم حتى وصل إلى تلك الحقائق، فهو لا يعنيه مدى صحة أو مصداقية قصة تفاحة نيوتن، ولكن الذي يعنيه هو قانون الجاذبية نفسه وكيفية الانتفاع به.
*****
إذا ورد النص الشرعي بصيغة عامة وجب العمل بعمومه الذي دلت عليه صيغته، ولا اعتبار لخصوص السبب الذي ورد الحكم بناء عليه، سواء كان السبب سؤالا، أم واقعة حدثت، ذلك ما ورد به النص القرءاني هو الأمر الملزم، فإذا ورد النص بصيغة العموم فيجب العمل بعمومه، ولا يعتبر خصوصيات السؤال أو الواقعة التي ورد النص بناء عليها، ولا يجوز الحكم على آيات القرءان بأسباب خاصة وردت في آثار ظنية، وقد كانوا أحيانًا يلفقون أسبابًا للترويج لتأويل معين للآيات.
وقد يتعللون بأن بعض الآيات يجب تخصيصها أو تقييدها، وما يجب عندهم لا يجب بالضرورة عند الله تعالى، فهو الذي أراد أن تكون آيات كتابه هكذا، فهذا الكتاب تَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِين، وحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِين، يُضِلُّ بِهِ كَثِيرا، وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرا، وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِين.
*****
قالوا: ((إن مروية "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" رغم أنها وردت في سؤال عن إمكانية الوضوء بماء البحر إلا إنه يمكن الاستناد إليها للقول بأن ماء البحر مطهر كل أنواع الطهور في حال الضرورة والاختيار))، والحق هو أن السؤال هو الذي كان غريبا، فلا يوجد أي سبب أصلا لمنع التوضؤ بماء البحر أو التطهر به ليتم السؤال عنه، ولقد أمرهم الله تعالى بأن يغسلوا وجوههم وايديهم عندما يقومون إلى الصلاة، فكان يجب الكفّ عن اتباع سنن بني إسرائيل في التدقيق والمحاققة، فكل إنسانٍ يعلم ماذا يعني الفعل "اغسلوا" ولوازمه كما يعلم أن الغسل يكون بالماء.
ويلاحظ الفرق بين حكمة تشريع النص وبين ما ورد النص بناء عليه من سؤال أو واقعة، فإن حكمة تشريع العام قد تخصصه بلا خلاف، وأما ما ورد النص بناء عليه فهو المراد بقولهم: لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ.
*******
قوله تعالى:
"اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ"
يعني خالق كل ما هو مخلوق، فهناك كيانات لا تتصف بأنها مخلوقة، ومنها تجليات الأسماء الحسنى مثلا وكلام الله والأحكام الإلهية، فالاسم الخالق مطلق في مجاله.
فالعبارة "كُلِّ شَيْءٍ" عندما تُضاف إلى أي اسمٍ إلهي تعبر عن جماع مقتضيات المشيئة الإلهية في مجال هذا الاسم، لذلك تختلف من اسمٍ لآخر.
*******
الخاص لغة هو ضد العام، واصطلاحا هو اللفظ الدال على محصور بشخص أو عدد، كأسماء الأعلام والإشارة والعدد.
وبطريقة أكثر تفصيلا هو لفظ وضع للدلالة على فرد واحد بالشخص مثل محمد، أو واحد بالنوع مثل رجل، أو بالجنس مثل حيوان أو نبات أو على متعدد محصور مثل ثلاثة وعشرة ومائة وقوم ورهط وجمع وفريق، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على عدد من الأفراد ولا تدل على استغراق جميع الأفراد.
وهو قد يشير إلى ذوات أو إلى معانٍ.
والتخصيص لغة: ضد التعميم، وهو ما دل على معين محصور.
ودليل التخصيص نوعان: متصل ومنفصل، فالمتصل: ما لا يستقل بنفس، والمنفصل: ما يستقل بنفسه.
وحكم الخاص على وجه الإجمال، أنه إذا ورد نص شرعي دل دلالة قطعية على معناه الخاص الذي وضع له حقيقة، وثبت الحكم لمدلوله على سبيل القطع لا الظن، ما لم يدل دليل على صرفه عنه.
فتحديد الكفارة بصيام ثلاثة أيام أو شهرين أو بإطعام عَشَرَةِ مَسَاكِينَ نصوص قطعية الدلالة لا تحتمل تأويلا، أما الطعام فيخصصه العرف، أو المعروف بين الناس؛ أي أحوال العصر والمصر.
*****
الجمع المنكر هو لفظ يتناول كثيرًا من الأفراد، ولا يستغرق جميع ما يصلح له، فهو ليس عامًا لعدم استغراقه جميع ما يصلح له، وليس خاصا لتناوله كثيرا محصورًا من الأفراد.
مثال، اللفظ رجال في قوله تعالى:
{.... يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} النور
1