نظرات في تاريخ مصر
شعب متدين بطبعه
شعب متدين بطبعه
عندما غاب موسى عن بني إسرائيل سرعان ما كفروا، وظنوا أن موسى قد أخرجهم من مصر ليهلكوا في البرية، قرروا العودة إلى مصر، ولأنهم كانوا مصريين يقدسون العجل أبيس فقد عهدوا إلى السامري أن يصنع لهم عجلا ذهبيا، وكانوا يعلمون أن حمل العجل أمامهم سيدفع الشعب المصري المتدين بطبعه إلى العفو عنهم وحسن استقبالهم.
وكانت القطط كائنات شديدة القدسية عند المصريين القدماء، أطلقوا عليها لقب باستيت وهي إلهة الحنان والوداعة عندهم وكانت أيضًا رمزا للخصوبة والحب والحنان، كانت مدينة بوباستيس الموجودة في دلتا النيل بالقرب من الزقايق مركزًا لعبادتها، كان قتل القطة جرم لا يُغتفر، عقوبته الموت، وكان الشعب المصري يصرّ على تطبيق ذلك الحكم على من قتل قطًّا ولو بدون قصد.
وعندما أراد الفرس غزو مصر عام 525 ق.م، أمر قائدهم "قمبيز" بإحضار أعداد كبيرة من القطط مع الجيش، ورسم جنوده صور القطط على الدروع، وقيل إنهم لفوا القطط حول أيديهم، ولما بدأت المواجهة بين الجيشين في معركة الفارما أطلق الفرس القطط، وبمجرد أن رآها المصريون رفضوا قتلها أو إطلاق سهامهم أو رماحهم عليها، لأنهم كانوا يقدسون القطط، ثم تقدم جنود الفرس يحملون دروعهم المرسوم عليها صور قطط، والمصريون ممتنعون عن القتال أو الدفاع عن أنفسهم، وكانت النتيجة أن هُزموا هزيمة ساحقة، وقُتل منهم أعداد كبيرة، وفروا من أمام جيش قمبيز! وقد خرَّب هذا المجرم مصر تخريبًا مريعًا، وكان على رأس ما خربه المعابد التي كان يُقدَّس فيها للقطط، وقد كرمه المصريون المحدثون، كعادتهم مع كل من أجرموا في حق مصر، وأطلقوا اسمه على أحد شوارعهم.
وعندما جاء الإسكندر إلى مصر أعلن أنه يؤمن بالديانة المصرية وأنه ابن آمون، واستقبله المصريون بالفرح والسرور، ولكن الرجل كان متحضرا، وهو لم يفعل إلا أنه طرد الفرس المخربين المكروهين.
وعندا أسس البطالمة أسرة حاكمة، قاموا، استرضاءً للشعب، باستحداث إله جديد هو سيرابيس من الرمز "أوزيريس-آبيس" لتوحيد سكان مصر من المصريين القدماء واليونانيين، فهو إله مصري-يوناني تلقته الأمة بالقبول، بل وانتشرت عبادته أيضًا خارج مصر، وبذلك دام حكم البطالمة ثلاثة قرون، اتحدت فيها الحضارتان المصرية واليونانية، وولدت الحضارة المسماة بالهيلينستية، وحققت إنجازات هائلة، واتخذت طابعًا عالميا كوزموبوليتانيا، وكان من الممكن أن تبدأ الحضارة العالمية الحديثة في الإسكندرية.
ولكن قضى على ذلك ظهور الديانة البولوسية الآتية من الشرق، كان عامة المصريين لا تعجبهم الأرستقراطية الحضارية القائمة في الإسكندرية وبعض المدن الأخرى، وظلوا يتربصون بها شرا، وجدوا ضالتهم في الديانة الجديدة التي أعطتهم شعورا بالاستعلاء عليها، أتتهم الفرصة في إعلان الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الكبير المسيحية ديانة وحيدة للإمبراطورية في يومٍ حالك السواد في تاريخ الحضارة الإنسانية، كان ذلك سنة 391 م، وهكذا بدأ المسيحيون في الانتقام المريع من (الوثنيين).
تم تدمير كل ما أمكن تدميره من آثار هذه الحضارة، ومن آثار الحضارة المصرية القديمة، على أيدي الشعب المتدين بطبعه، وبتحريض من رجال الدين، لم يستطع أحد إنقاذ أتباع الديانة القديمة، ولا الحفاظ على ممتلكاتهم أو معابدهم، تمكن بعضهم من الفرار إلى النوبة، واستبسلوا في الدفاع عما تبقى من الآثار الفرعونية هناك.
ومن بعد أن كانت الأمور والقضايا العلمية والرياضية والفلسفية شغل الناس الشاغل انشغل الناس بالقضايا اللاهوتية الجوفاء وبالتفنن في الرهبنة.
بذلك حدثت القطيعة مع الحضارة المصرية القديمة وتراثها، وكان على البشرية أن تنتظر الغزوة الفرنسية سنة 1798م لتبدأ في التعرف على هذه الحضارة المبهرة.
وعندما استولى صلاح الدين على السلطة بانقلاب على الخليفة الفاطمي الذي وثق به وسماه صلاح الدين، لم يكن بحاجة إلى أن يعرف أهمية الدين في حياة المصريين، وجد أنه لا مفر من استعمال كافة الوسائل البشعة للقضاء على الشيعة في مصر وعلى تراثهم وعلى إمكانية أن يهددوا سلطانه أو سلطان أسرته من بعده، أغلق الجامع الأزهر الفاطمي، قتل عشرات الألوف من المصريين، فرَّ من ظل متمسكا بدينه منهم إلى جبال لبنان وإلى اليمن ومنها إلى الهند، قضى على ما تبقى من دار الحكمة.
هذه الدار كانت تحتوي على حوالي 1,600,000 مجلد ضمّت (6500) مخطوطة في الرياضيات و(18,000) مخطوطة في الفلسفة وكان الدخول إليها والاستنساخ والترجمة مجانا، ويقول المؤرخ المقريزي: إن دار الحكمة في القاهرة لم تفتح أبوابها للجماهير إلاّ من بعد أن فُرشت وزُينت وزُخرفت وعُلقت على جميع أبوابها وممراتها الستور، وعُين لها القوام والخدم وكان عدد الخزائن فيها أربعين خزانة تتسع الواحدة منها لنحو ثمانية عشر ألف كتاب، وكانت الرفوف مفتوحة والكتب في متناول الجميع، ويستطيع الراغب أن يحصل على الكتاب الذي يريده بنفسه ما تيسر له ذلك، فإذا ضلّ الطريق استعان بأحد المناولين.
ومن الجدير بالذكر أن مصر كانت الملاذ الآمن للعلماء والفلاسفة (المارقين) في العصر الفاطمي، وأنهم كانوا على وشك بدء نهضة علمية كبرى لولا ما ضرب البلاد من كوارث طبيعية و(بشرية).
وهكذا سبق صلاح الدين هولاكو، وتفوق عليه في القضاء على الحضارة.
وعندما ظهر العثمانيون كقوة همجية كاسحة، وقضوا على الدولة البيزنطية وغزوا شرق أوروبا أصبح حلم المصريين ومشايخهم أن يستمتعوا بالدخول تحت النعل العثمانلي الذي يحكم بالشريعة المزعومة ويفتك بالمسيحيين في أوروبا، وتململوا من حكم المماليك الذين كانوا يعملون لمصلحة مصر، ويتحالفون مع مدينة إيطالية مسيحية ضد البرتغاليين لحماية موارد مصر التجارية، بل كانت لهم علاقات طيبة بالدولة البيزنطية قبل سقوطها.
حاول العثمانيون مرارا غزو مصر إلا إنهم هُزموا هزائم ساحقة، علموا أنه لابد من استعمال سلاح الدين.
جاءتهم الفرصة عندما ظهر الصفويون الشيعة، أشاعوا أن المماليك يتحالفون مع الشيعة ضد العثمانيين السنة، هذا مع أن مصر كانت مقر الخلافة العباسية السنية! بدأ المشايخ يتخابرون مع الدولة العثمانلية، شاعت الخيانة في الصفوف، وهُزم المماليك أمام العثمانيين، وعندما استباح العثمانليون القاهرة، ولعبوا في المصريين بالسيف، وانتهكوا أعراضهم، بدؤوا يفيقون، وانضموا إلى صفوف البطل المملوكي طومان باي، ولكن كان الأوان قد فات، وفقدت مصر استقلالها وشرفها تحت الحكم العثمانلي الهمجي، بل كادت تفقد كيانها نفسه، بعد أن كاد المصريون ينقرضون.
وتخليدًا لذكرى ما فعله بهم المجرم العثمانلي سليم الأول أطلق المصريون، كعادتهم، اسمه على واحد من أكبر شوارع العاصمة، ولم يثغيروا اسمه إلا حديثا، من بعد أن حدث خلاف مع تركيا.
وعندما أراد نابليون غزو مصر، كان يعلم بالطبع أنهم شعب متدين بطبعه، لذلك أعلن أنه ما جاء إلى مصر إلا من بعد أن خرَّب الكرسي البابوي في روما، وأن مقصده تأديب المماليك المتمردين على الخليفة العثمانلي.
وعندما أراد الإنجليز غزو مصر كانوا يعلمون أيضًا أن المصريين شعب متدين بطبعه، استصدروا فرمانا من السلطان العثمانلي عبد الحميد، معبود معاتيه ومخابيل مصر، يعلن فيه عصيان عرابي، مما فتّ في عضده، وشجع الكثيرين على خيانته والتمرد عليه، ليدخل الإنجليز مصر بدون خسائر تُذكر.
ولقد تبين للشيطان الصهيوني الغربي أن نفوذ مصر في العصر الحديث يرجع أساسًا إلى قوتها الحضارية الناعمة، وكانت متعددة الأوجه:
1. الوجه الأدبي
2. الوجه الفني
3. الوجه التعليمي
4. الأزهر الذي يدين له بالولاء مئات الملايين في شرق آسيا وغرب أفريقيا بمذهبه السني التصوفي، بالإضافة إلى مصر نفسها ومحيطها.
ولقد وجد هؤلاء الشياطين ضالتهم لضرب كل ذلك في الدين الوهابي وتنظيمات الإجرام السياسي، فاستغلوا كل عقد ومركبات نقص الرئيس المؤمن ورغبته في الانتقام من جمال عبد الناصر، والقضاء على كل منجزات عهده وتقويض مكانته، وهكذا استعملوا هذا المؤمن لضرب كل نقاط تفوق مصر وقوتها الناعمة.
وهكذا دفع جمال عبد الناصر غاليا ثمن اختياره للسادات نائبًا له.
ثم استغلت نفس القوى الشيطانية رغبة أسرة مبارك لتحويل مصر إلى جمهورية وراثية، فاستمر مخطط القضاء على كل قوى مصر، وهكذا اعتنقت البلاد الدين الوهابي السلفي، وانتشر فيها انتشار النار في الهشيم، وأصبح كل شيخ من مشايخ الدين السلفي يمتلك مجمعًا سكنيا، يقيم فيه مع نسائه وأولاده وأحفاده الذين لا يعرف عددهم، في حين يتلظى البهائم الذين يقدسونهم في جحيم الفقر والجهل والتخلف.
وهكذا تدهورت مكانة مصر، واستشرى فيها وتجذر الفساد، وانتشر الفقر المدقع والانحلال، وانهار الأدب والفن والتعليم والمثل والقيم والدين.
أما الشعب المتدين بطبعه فكان في ذروة سعادته بديانته السلفية الجديدة، ووجد فيها نفسه، ولو تخلى عنها كل العالم بما في ذلك مشايخه لظل متشبئًا بها، ولاتَّهم مشايخه بالنفاق والتقية ولأعلن أنه باقٍ على تقديس رموز هذه الديانة الشيطانية مهما جلبت عليه من الكوارث.
*******
1