top of page

نظرات في المذاهب

09a

القياس1

القياس في اصطلاح الأصوليين: هو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم.

وقد احتجوا بقوله تعالى 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة:90]

 فقالوا إن الخمر هو ما اشتد من عصير العنب، ثم جعلوا تحريم كل أنواع الخمر الأخرى بالقياس على خمر العنب، ولا يوجد في النص أصلا أي نص على أن الخمر المحرمة هي فقط المصنوعة من عصير العنب، وكان العرب يتعاملون مع شعوب تصنع الخمر من مواد أخرى، ولا توجد خصومة بين الإسلام وبين العنب ليجعله أصلا لتحريم الخمر، الخمر هي المادة المسكرة التي بتعاطيها تجعل الإنسان لا يعي ما يقول، وهذا ما بيَّنه القرءان، قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ..... } [النساء:43].

والصلاة تُقام لذكر الله، فلا يحق لأحد أن يؤديها وهو لا يعلم ما يقول.

وهذا مثال من الأمثلة التي تبين كيف يلزمون النصوص بما يعنّ لهم ويقيدونها لكي يثبتوا صحة قاعدة من قواعدهم، لقد جعلوا النصوص في خدمة القواعد، والحق هو أن الأمر أو العنصر الديني هو الأهم، وهو الجدير دائما بالاعتبار.

وقالوا لإثبات حجية قياس الأولى:

((قوله تعالى في شأن الوالدين: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]،

 تدل عبارة هذا النص أو منطوقه على نهي الولد أن يقول لوالديه " أُفٍّ "؛ والعلة في هذا النهي ما في هذا القول لهما من إيذائهما وإيلامهما، وكل عارف باللغة يفهم منه النهي عن شتم الوالدين وضربهما، بل يرى أن ذلك أولى بالنهي، فالمسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به)).

ولا حاجة لاشتقاقهم وقياسهم، فالأمر بالإحسان إلى الوالدين جاء صراحة بأسلوب بالغ القوة؛ أي بعبارة النص ومعناه الحرفي في نفس الآية: 

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} [الإسراء:23].

ومن لوازم ذلك وتفاصيله ما جاء في نفس الآية: 

{فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلً كَرِيمًا}.

فالنهي عن قول أفٍّ وعن نهرهما وكذلك الأمر بالقول الكريم لهم من اللوازم المذكورة صراحة في الآية، فلا يخطر ببال العارف باللغة، بل أي إنسان، أنه منهي عن أن يشتم والديه قياسا على أنه منهي عن أن يقول لهما "أفّ"، وإنما لأنه مأمور بالإحسان إليهما أمرًا قضى الله تعالى به وقرنه بالأمر بعبادته وحده دلالة على أهميته الشديدة ووجوبه القوي الملزم، كما أنه منهي عن أن ينهرهما، ومأمور بأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، فلا حاجة إلى قياس القياسيين!

فلا مجال للقياس هنا، فالحكم المطلوب مذكور صراحة ونصًّا، ومكرر بالتأكيد، وبالذكر بصيغ أخرى، ولا يجوز لأحد أن يقول هنا: "إنه لم يذكر صفعهما، فالصفع يجب تحريمه بالقياس"!!!!

وعندما يقول المعلم لتلاميذه "لا أريد أن أسمع همسا"، فإنهم سيفقهون بالضرورة ماذا يقصد بدون استعمال قياس الأولى!! ولن يقول له أحدهم كان من الأولى أن تنهانا عن الصراخ!!!

إنه من الجدير بالذكر أن (الأصوليين والفقهاء) دأبوا على اقتطاع أجزاء من الآيات ثم تحميلها بما يريدون قوله أو إثباته! فهم كما تبين في هذا المثال يأخذون بالعبارة 

{فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ}

 ليستدلوا بها على حجية مفهوم القياس أو للقول بدلالة النص أو مفهوم الموافقة! هذا مع أن هذا الأمر الوارد في العبارة المقتطعة مترتب على الإحسان إلى الوالدين ومبين له، ولكن القواعد عند الأصوليين مقدمة على الأمور الدينية!

فكل ما ذكروه من أحكام مأخوذ من النص ذاته، ولا مجال للزعم بأنه مستنبط بالقياس، بل هو من منطوق وفحوى ومفهوم الخطاب، فالحكم ثابت بالنص وبما يسمونه بدلالة الدلالة أو بدلالة النص أو بمفهوم الموافقة، وفي كل الأحوال كان يجب النظر في باقي الآية أو الآيات التي تتحدث عن نفس الأمر فقد تصرح بما يقولون إنه مسكوت عنه.

وقالوا إن البيع وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة واقعة ثبت بالنص حكمها التي دل عليها قوله سبحانه: 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } [الجمعة: 9]،

 لعلة هي شغله عن الصلاة، والإجارة أو الرهن أو أية معاملات وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة توجد فيها هذه العلة، وهي شغله عن الصلاة، فتقاس بالبيع في حكمه وتكره وقت النداء للصلاة.

ليس هذا بقياس، فطبقا للنظم القرءاني يأتي الأمر العام عادة متبوعا بما يجسده مما كان معلومًا لهم، فما يجسد الأمر هو تابع للأمر العام، والأمر العام يشمله ويشمل غيره، وكمثال لتقديم الأمر العام؛ قال تعالى:

{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون} [الأنفال:60]

فالقوة المطلوب إعدادها هي مصطلح عام يشمل كل أنواع القوة المادية والمعنوية التي يمكن أن تؤدي إلى إرهاب العدو، والقوة المادية تتطور عبر العصور، هذه القوة تشمل الآن مثلا كل أنواع الأسلحة الحديثة، كما تشمل قوة وكفاءة الجنود أنفسهم، ورباط الخيل كان من لوازم القوة وتفاصيلها التي يعرفونها، فإعداد القوة اللازمة في كل عصر لا يكون قياسا على رباط الخيل، وإنما عملا بالأمر الأصلي العام، أما إعداد رباط الخيل فهو الأمر الخاص بقوم الرسول، وهو داخل أيضًا في الأمر العام، فالخيل كانت هي القوة الضاربة قديما.

فآية الإسراء تبدأ بالتصريح بالأمر العام، وهو السعي إلى ذكر الله إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وهذا يعني بالضرورة وجوب ترك كل الأعمال الأخرى، بما فيها البيع، فترك الأعمال الأخرى لا يكون قياسا على البيع وإنما عملا بالأمر العام.

والأمر الخاص كان عادة لأن الرسول كان يحمل رسالة خاصة إلى قومه، وذلك بنصّ القرءان، فالأمر الخاص لا يبطل الأمر العام بحيث يستدعي الأمر إعادة فرضه بالقياس، والأمر العام يمكن أن يكون منصوصًا عليه، وإما أن يكون ثابتا بفحوى ومضمون الخطاب، فالسعي إلى ذكر الله عند النداء للصلاة يستوجب ويستلزم التفرغ لذلك.

وهم يقولون: ففي كل مثال من هذه الأمثلة سوِّيت واقعة لا نص على حكمها، بواقعة نص على حكمها في الحكم المنصوص عليها، بناء على تساويهما في علة هذا الحكم، وهذه التسوية بين الواقعتين في الحكم، بناء على تساويهما في علته هي القياس في اصطلاح الأصوليين.

وقولهم تسوية واقعة بواقعة أو إلحاق واقعة بواقعة، أو تعديه الحكم من واقعة إلى واقعة، هي عبارات مترادفة مدلولها واحد...

وكما تبين فإن كل واقعة زعموا أنه لا نصَّ على حكمها إما أن يكون منصوصًا على حكمها في نفس الآية وإما أنها من فحوى ومعنى نص الآية.

قال تعالى: 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} [الأحزاب:49]

قالوا يقاس عليه حكم الكتابيات أيضًا، ولا يوجد أي إلزام بذلك، فحكم الكتابيات مسكوت عنه، فهو مفوض إلى أولي الأمر، ولهم أن يأخذوا بنفس الحكم من باب الإقساط إلى أهل الكتاب وعدم التمييز بينهم وبين المسلمين، وليس من باب إعمال القياس.

ويجب العلم بأن القرءان ليس ملزمًا باتباع ما قرره الأصوليون، فهو لم يصدر بالضرورة حكما شرعيا لكل حالة ولم يحدد عقوبة دنيوية على كل كبيرة من كبائر الإثم، وكان من مقاصد ذلك:

1. إعلامهم بأن القرءان ليس مدونة قانونية، فهو ليس كقانون حمورابي أو القانون الروماني أو القانون الفرنسي.

2. بيان مدى محدودية وثانوية هذه الأمور التي يجعلها سدنة الأديان عادة شغلهم الشاغل.

3. إعطاء الأمور الدينية الجوهرية الوزن الأكبر.

***

قال تعالى: 

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [النور:4]

قالوا إن من يرمي المحصنين من المؤمنين كذلك، وهذا غير صحيح، قالحكم مسكوتٌ عنه، والأمر مختلف تماما، ولولي الأمر أن يقدر العقوبة الملائمة على من يرمي المحصنين من المؤمنين، وفي هذه الحالة لا يجوز أن تزيد هذه العقوبة على العقوبة المذكورة.

قالوا: إن نصوص القرءان محدودة ومتناهية، ووقائع الناس وأقضيتهم غير محدودة ولا متناهية، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها هي المصدر التشريعي لما لا يتناهى، فالقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجددة، ويكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث ويوفق بين التشريع والمصالح.

وقولهم هذا هو من مهازلهم التي لا تنتهي، هل حدث يوما ما أن المشرعين البشريين كتبوا مدونة قانونية لا نهائية؟ هل لابد من قانون طبيعي لكل جزئية من الظواهر الطبيعية؟ أم إن مجموعة محدودة من القوانين تحكم ما لا حصر له من الظواهر، ألا تخضع لقانون الجاذبية مليارات المليارات من النجوم والكواكب والأجسام؟! ألا يخضع للمعادلات الحاكمة على الإلكترون مليارات مليارات مليارات ... الإلكترونات في ظروف لا يكاد يكون لها حصر؟!

والمشكلة أنهم يعاملون القرءان وكأنه مدونة قانونية يجب أن تحتوي على أحكام لكل المعاملات والقضايا الجزئية التي يمكن أن تستجد، وذلك لإعراضهم عن القرءان وتجاهلهم له، وهم بذلك قد جهلوا منظومات سماته ومقاصده العظمى.

إنه يجب العلم بأن من مقاصد القرءان وضع الإصر والأغلال عن كاهل الناس، وليس تكبيلهم بشبكة قانونية عنكبوتية بحيث يتصور الإنسان أنه لابد من حكم شرعي قانوني لكل حركة من حركاته أو سكنة من سكناته.

كما أن الاقتصاد في التشريع يجعل الشغل الشاغل للقضاة إحقاق الحق والحكم بالعدل والقيام بالقسط بين الناس، فهم سيشغلون أنفسهم بجوهر الأمور أكثر من الانشغال بشكلياتها، فليس المقصد تحديد شكل معين للعقوبة، ولكن تحقيق مقاصد الدين العظمى.

*****

قالوا: ((إن القياس دليل تؤيده الفطرة السليمة والمنطق الصحيح، فإن من نهى عن شراب لأنه سام يقيس بهذا الشراب كل شراب سام))!!!

قلنا: إن الإنسان يمتنع عن شرب أي شراب سام لمجرد علمه بأنه سام، وليس قياسا على شراب سام آخر، فلا حاجة للقياس لإثبات ذلك، ولا يثبت بمثل ذلك حجية للقياس في الدين.

القياس لا يصلح إلا عند الحكم بين الناس في قضايا جزئية، ولا يصلح أبدًا لإنتاج أحكام دينية.

***

قالوا: 

((إنه بإعمال القياس يجب ردّ شهادة الكافر فذلك أولى من ردّ شهادة الفاسق المذكورة في الآية:

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين} [الحجرات:6]))

كلامهم غير صحيح، فالكافر قد لا يجرؤ على الكذب مثلما فعل (الصحابي الجليل) الفاسق السكير الوليد بن عقبة بن أبي معيط والي عثمان على الكوفة وأخيه لأمه، فالناس في الأمم المتقدمة يمقتون الكذب ويعتبرونه كبيرة الكبائر، والناس يرون الآن أن ضبط أي مسؤول متلبسا بالكذب في الغرب يعني عزله من منصبه وربما القضاء على مستقبله السياسي، أما الناس في البلدان المحسوبة ظلمًا على الإسلام، وخاصة إذا كانوا مسؤولين أو رجال لادين فإنما يعيشون بالنفاق والكذب.

***

قالوا: ((طالما وجب على من قتل مؤمنا خطأً أن يؤدي كفارة فإنه بقياس الأولى يجب أن يفعل ذلك من قتله متعمدا)).

كلامهم غير صحيح، فالآية تقول: 

{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]

فكيف يقبل الله تعالى منه كفارة بعد أن غَضِبَ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا وأعلن أن جزاءه جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا؟!

أما الحكم في الدنيا فإنه يجب القصاص من القاتل.

*****

من الحجج ضد القياس "إن القياس مبنى على الظن بأن علة حكم النص هي كذا والمبنى على الظن ظني، والله سبحانه نهى عن اتباع الظن"، وقال الأصوليون محاولين الردّ على هذه الحجة: "المنهي عنه هو اتباع الظن في العقيدة، وأما في الأحكام العملية فأكثر أدلتها ظنية، ولو اعتبرت هذه الشبهة لا يعمل بالنصوص الظنية الدالة لأنه اتباع للظن، وهذا باطل بالاتفاق، لان أكثر النصوص ظنية الدلالة".

وهذا أولا إقرار صريح بأن دينهم مبني على الظن!

ولكن هل النهي عن اتباع الظن هو في العقيدة فقط أم في كل أمور الدين؟

إن النهي عن اتباع الظن هو في العقيدة وفي كل أمور الدين، بل في أكثر أمور الحياة:

{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُون} [الأنعام:116]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيم} [الحجرات:12].

فكل إنسان مطالب بطلب الحق والعلم واليقين، وممنوع من اتباع الظنون والأوهام، وكل إنسان في مصالحه الدنيوية الحقيقية يطلب اليقين ولا يكتفي بالظن.

ولكن الإنسان ليس مكلفا إلا بما هو في وسعه، وكل أمور الدين الحقيقية ثابتة بأدلة دينية كافية، وليس بأدلة ظنية.

والقاضي بين الناس إنما يحكم بما ثبت واستقر في يقينه بعد بذل كل ما يلزم من جهد معتصمًا بالقيم والسنن الإسلامية.

إنه يجب دائما التمييز بين هذه الأمور وعدم الخلط بينها:

1. السنن الإلهية الكونية.

2. السنن التاريخية (السنن الكونية الخاصة بالكيانات الإنسانية).

3. السنن (القوانين) الشرعية.

4. السنن التشريعية.

5. الأحكام الجزئية الناتجة عن تطبيق السنن الشرعية على الأمور الجزئية.

والأصوليون عندما يحتجون بالعبارة القرءانية 

{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار}

 في الآية 

{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار} [الحشر:2]

 يخلطون بين السنن التاريخية وبين الأصول والأحكام الدينية.

والآية إنما تؤكد ثبات السنن الإلهية التي نصَّ الكتاب العزيز على أنه لا تبديل لها ولا تحويل وتأمر المؤمنين بالاعتبار مما عاينوه من مصير الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حتى لا يقترفوا مثل ما اقترفوه هم، وهى بداهة لا تأمرهم بإعمال القياس لاستنباط حكم شرعي.

ولقد استدلوا بقوله تعالى 

(فاعتبروا)

 للدلالة على شرعية القياس، وليس الأمر كذلك، فالاعتبار هاهنا هو العبور من الظاهرة إلى ما بطن فيها من حكمة وما يسري عليها من سنة، فهو إنما يكون باستخلاص الحكمة والمقصد والسنة الإلهية للانتفاع بها بصفة عامة والذي يتمثل في مزيد من العلم بالله تعالى ومزيد من التقوى والإجلال ومزيد من التحقق بالكمال وليس بالضرورة لاستنباط حكم شرعي، فالآية محل الاعتبار هي دليل على وجود قوانين وسنن لا تبديل لها ولا تحويل وعلى وجود غايات ومقاصد وحِكم للمظاهر والظواهر.

وعندما يحتجون بالآية

 {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} يس،

 أو بالآية:

 {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [الروم:50]

 فإنهم يخلطون بين السنن الإلهية الكونية وبين الأصول والأحكام الدينية.

وهم بصفة عامة يتخذون من ذكر الله تعالى من مقاصد لأوامره أو من حثه الناس على النظر في آياته وفي عواقب الناس لاستخلاص سننه الكونية والتاريخية والتعرف عليها أدلة في صالح القياس، وهذا من أعجب الاستدلالات في تاريخ البشرية!! بل يقولون إن الله تعالى يستعمل القياس!!! ليقيم الحجة على خلقه، وبالتالي فيجب أن يقيس الناس لإحداث شرائع في دينه بدون إذنه!!! والحق هو أن أدلتهم لإثبات القياس هي من أشد الأدلة استفزازا للمنطق.

إنه يجب العلم بما يلي ثبات الكلمات والسنن الإلهية شيء، والقول بأن من حق شخص أن يقيس ليحدث حكما دينيا هو شيء آخر، الحكم الديني هو مثل السنن الكونية؛ يُكتشف ويعرف ولا يُستحدث.

أما المرويات فهي ظنية، لا تصلح كحجة لاستحداث أصل جديد للدين، ومع ذلك فلا يوجد فيها ما يشير إلى أن الرسول كان يقصد منها جعل القياس أصلًا دينيا يمكن به التشريع في الدين، وهو نفسه لم يستعمله لذلك، وإنما كان يشرح للناس حكما مقررا، فالقول بأن القبلة مثل المضمضة في الصيام مترتب على أن الصيام هو الامتناع عن الأكل والشرب والجماع المعلومين للناس، فهو بيان للأمر وليس تقريرا للقياس، وليس إحداثا بالقياس لحكم جديد، والمضمضة نفسها لم يرد بشأنها حكم قرءاني صريح ليقاس عليه!!

ولا يستسيغ لاختلاق أصل ديني أن يُقال إن الفطرة الإنسانية تسوي بين المتماثلين وتفرِّق بين المختلفين، ولو كان يمكن الاكتفاء بذلك والتعويل عليه في المسائل الدينية لما كان ثمة حاجة للدين أصلا، فهل ما يسمونه بالفطرة إله معصوم لا يتبدل ولا يتغير؟ وهل هي تدرك بالضرورة أن أمرين هما متماثلان؟ وهل يمكن الاعتماد على مثل هذا الكلام لإحداث أصل يمكن باستغلاله التشريع في الدين؟

ويشترط عندهم لتعدية حكم الأصل إلى الفرع شروط، لأنه ليس كل حكم شرعي ثبت بالنص في واقعة يصح أن يُعدَّى بواسطة القياس إلى واقعة أخرى؛ بل يشترط في الحكم الذي يعدَّى إلى الفرع بالقياس شروط، منها:

الأول: أن يكون حكما شرعيا عمليا ثبت بالنص.

الثاني: أن يكون حكم الأصل مما للعقل سبيل إلى إدراك علته، لأنه إذا كان لا سبيل للعقل على إدراك علته لا يمكن أن يعدَّي بواسطة القياس لأن أساس القياس إدراك علة حكم الأصل، وإدراك تحققها في الفرع.

وتوضيح هذا الشرط: أن الأحكام الشرعية العلمية جميعها إنما شرعت لمصالح الناس والعلل بنيت عليها، وما شرّع حكم منها عبثا لغير علة، غير أن الأحكام نوعان:

النوع الأول: أحكام استأثر الله بعلم عللها، ولم يمهد السبيل إلى إدراك هذه العلل ليبلوا عبادة ويختبرهم، وهم يمتثلون وينفذون ولو لم يدركوا ما بني عليه الحكم من علة وتسمى هذه الأحكام: التعبدية، أو غير المعقول المعنى. ومثالها: تحديد أعداد الركعات في الصلوات الخمس، ومقادير الحدود والكفّارات، وفروض أصحاب الفروض في الإرث.

ويجب المبادرة بالقول هنا بأن تحديد مقادير الأنصبة في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقادير ما يجب فيها والمدد الزمنية اللازمة لإيتاء الزكاة هي أمور مفوضة إلى أولي الأمر في كل عصر ومصر.

وفي الحقيقة من الغريب إثارتهم الحديث حول هذه المسألة، إن مقاصد العبادات معلومة، والوصول إلى أسرارها في إمكان البشر، ولابد أن تكون مقاديرها في وسع الجميع أو الأكثرية منهم بصفة عامة، وذلك يقتضي تحديد العبادات العملية مع ترك بعضها بدون حدّ أعلى، أما العقل (وهو جماع ملكات الإنسان الذهنية) فهو يعمل فيما هو متاح له من علوم.

وليس لهم أن يتقولوا على الله بدون علم، ومن ذلك قولهم:"أحكام استأثر الله بعلم عللها، ولم يمهد السبيل إلى إدراك هذه العلل".

النوع الثاني: أحكام لم يستأثر الله بعلم عللها، بل أرشد العقول إلى عللها بنصوص أو بدلائل أخرى أقامها للاهتداء بها، وهذه تسمى: الأحكام المعقولة المعنى، وهذه هي التي يمكن أن تعدى من الأصل إلى غيره بواسطة القياس؛ سواء أكانت أحكاما مبتدأة أي ليست استثناء من أحكام كلية، أم كانت أحكاما مستثناة من أحكام كلية، فالشريط لصحة تعدية حكم الأصل أن يكون معقول المعنى بلا فرق بين كونه حكما مبتدأ ليس استثناء من كونه حكم كلي وكونه حكما استثنائيا من حكم كلي، وأما إذا كان غير معقول المعنى فلا يصح تعديته سواء أكان حكما أصليا أم استثنائيا، وعلى هذا لا قياس في العبادات والحدود، وفروض الإرث وأعداد الركعات.

والحق أنه لا قياس في أي شيء من أمور الدين، وإنما يمكن القياس في الأحكام الجزئية بين الناس التي لا يُزاد بها الدين.

1

عدد المنشورات : ٦٥١

bottom of page