الأفعال الإلهية والحرية الإنسانية
التدبير
قال تعالى:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }يونس3، {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }يونس31، {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }الرعد2، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} السجدة5،
إن الله تعالى يدبر الأمور، فيرتب بعضها على بعضها، ويربط بعضها ببعضها، ويرتب الآثار على الأفعال والنتائج على الأسباب ويسيِّر أمور المخلوقات، فالتدبير هو فعلٌ مجاله الكيانات الأمرية.
والله تعالى يدبِّر أمر كل عالم من حيث هذا العالم وبمقتضى القوانين والسنن والبرامج التي ضمَّنها هذا العالم وبثها فيه وباستعمال جنوده وآلاته الذين خلقهم لتحقيق مقاصده الوجودية في هذا العالم؛ فهو الذي أوحي في كل سماء أمرها وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، لذلك لا ينبغي مطالبته سبحانه بالأمور الزمانية ولا الزعم بأنه كتب كل أفعال الناس مثلا ومصائرهم في الزمن السحيق وأنه يسوقهم إليها سوقا، فلا تعريف للماضي والحاضر والمستقبل إلا من حيث عالمٍ ما بدأ زمانه معه، ولابد أنه في كل عالم ثمة أمور ينظر فيها في كل وقت من حيث هذا العالم دون أن يقتضي ذلك أي تغير في السمات الإلهية، فالسمة الكاملة كمالا مطلقا لا يمكن أن تتغير عما هي عليه.
ولا يجوز الخلط بين السمة الإلهية وبين مجالاتها الممكنة، بل إن السمة الكاملة كمالا واجبًا مطلقا تستلزم مجالات ذات طبيعة شديدة التنوع والتغير لتظهر ما لا يتناهى من تفاصيل كمال السمة، فمن حيث هذا العالم مثلا ترفع إليه سبحانه أمورٌ في كل حين فيحكم فيها ويدبر الأمر ويفصل الآيات، وهو يدبر الأمر من حيث منظومة أسمائه ومن حيث ملائكته وجنوده المشار إليهم بقوله:
{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرا} النازعات5.
فالتدبير فعل من أفعال الله سبحانه، وهو من مقتضيات استوائه على العرش، والأمر المدبر يكون محكما لطيفا عند المستوى العرشي ثم يتكثف ويفصَّل بالتنزل عبر السماوات ويبلغ أقصى درجة من التفصيل والظهور في عالم الشهادة أي في الأرض، ثم يستخلص هو وما ترتب عليه وتعلق به بالملكات الإنسانية القلبية بعد ما أدى إلى ظهور بعض سمات الكمال.
فهذا التدبير يتم وفق مقتضيات عالمي الغيب والشهادة، وهو منظور فيه في كل وحدة زمنية أو يوم طبقا للمصطلح القرءاني، والجزء الأرضي من الحلقة ليس مدونا بالضرورة في اللوح المحفوظ إذ لا يدوَّن فيه إلا ما وجب وجوده، أو ما تمت كتابته، وبالتالي فإن الأمور اليومية الجارية منظور فيها ويمكن تغييرها وتعديلها، فهي لا تدوَّن إلا بعدما تتحقق، وثمة جانب عشوائي منها محكوم بالقوانين الاحتمالية، وثمة جانب آخر شديد الحساسية للشروط الحدية والابتدائية، فكل ذلك يشكل مجال التقدير أو العلم السابق وليس مجال الجبر أو الإكراه.
فالجانب الأكبر من الأمور الجزئية اليومية ليس محددا مسبقًا بطريقة صارمة، لذلك كانت تلك الأمور هي مجال المحو والإثبات، فتردد الإنسان واختياره وإرادته الحرة هي أمور حقيقية على مستوى عالمه المقيد المحدود، أما الأمور التي لا تبديل لها ولا تحويل فهي الأمور الكلية والقوانين والسنن والماهيات والكلمات الإلهية فكل ذلك يشكل دعامات عالم الشهادة.
وكل ما يحدث أو يتحقق من الوقائع إنما يكون عن تدبير إلهي، وهذا التدبير إنما يكون من حيث القوانين والسنن التي اقتضتها منظومة الأسماء الحسنى التي هي عين الكمال أو الحسن المطلق وتفاصيله، لذلك فكل ما صدر عنها هو الأحسن والأفضل والأكمل، ولكن تلك المنظومة اقتضت وجود الإنسان المخير والمكلف كما أنها رتبت كثيرا من الأمور على أفعال الإنسان الاختيارية كما تترتب النتيجة على السبب، فالقوانين الحاكمة عل ذلك هي مقتضيات الحسن المطلق، ولكن لدى كل إنسان نقصه الذاتي الذي لا مفر منه بل هو من لوازم تميزه وتعينه، وهذا النقص قد يدفعه إلى مخالفة الأوامر التكليفية التي اقتضتها منظومة أسماء الرحمة والهدى والرشاد، ومن الكمال أن يترتب على الخطأ الجزاء المناسب فلا يمكن أن يستوي المخطئ والمصيب، والجزاء قد يلحق بالإنسان في الدنيا أو في البرزخ أو في الآخرة، كما أنه قد لا يمس إلا الكيان الخارجي وقد يصيب أعمق أعماق نفسه، فالجزاء يتفاوت من حيث المدى والعمق والشمول بسبب طبيعة المعصية وكذلك عمق الكيان الإنساني الذي صدرت عنه، فإذا ما تراكمت الأخطاء وتفاقمت حتى عمَّت أمة من الأمم كان لابد من عقاب تلك الأمة بعد إعطائها الفرصة بعد الأخرى وبعد أن يأخذ العفو والصفح والإغضاء والإمهال المدى الأقصى، فعقاب أمة كهذه هو عين العدل الذي هو من تفاصيل الحسن والكمال المطلق؛ فكل تدبير إلهي يتم لإحقاق الحق والعدل هو من مقتضيات الحسن المطلق، فهل كان ثمة طريقة لتتم الأمور بطريقة أفضل؟ إن كل ذلك من الممكن لو أطاع الناس الأوامر التكليفية وعضوا على ما لديهم من الحق بالنواجذ، فلقد وُهِب الإنسان اختيارا حقيقيا وإرادة تليق بمرتبته وهو ليس بمكرهٍ على فعله فإن اختار العصيان فإنه يوقع بذلك نفسه تحت طائلة قانون حقيقي لا يحابي أحدا.
إن ناتج إعمال فعل التدبير هو كيان أمري يتحقق في عالم الشهادة بهدف تحقيق مقصد وجودي، والتحقق يتم من حيث منظومة الأفعال التأثيرية.
*******
1