من هدي القرءان الكريم
سورة النجم
سورة النجم 1-18
سورة النجم 1-18
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)}
إنها إشارة إلى آيات القرءان أثناء تنزلها من عالمها العلوي المحكم إلى عالم الإنسان، وإشارة أيضا إلى انقضاء حياة النجوم، وهو حدث كوني هائل، وإشارة إلى تجسد الحقيقة المحمدية العظمى في عالم الشهادة.
إن الإسراء والمعراج إشارة إلى تحققه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بما قدر له ووصوله إلى أعلى المراتب الممكنة لمخلوق، فلقد أخذ يترقى إلى أن تجاوز كل درجات الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وكذلك تجاوز السماوات العلي وسدرة المنتهى إلى حيث لم يكن ثم إلا هو، أي هو إشارة إلى مرتبة انفراده بالله سبحانه، وكما كانت حقيقته أقرب الحقائق إلى الله لجَمْعها كل الكمال الممكن ولكونها الحقيقة التي اقتضاها الاسم الأعظم فكذلك بعد أن وجد بجسمه أصبح من حيث كل كياناته أرقى الكائنات وأقربها إلى الحق، ولقد رأى التجلي الأكبر للحق سبحانه في معراجه إليه الرؤية الممكنة، وكان ذلك بكل حقائقه ولطائفه وكيانه إذ لم يكن ثمة حجاب من كائنات غيرية ليحول بينه وبين ربه وإلا لكان أقرب إلى الحق منه، وليس هنالك ما هو أقرب إلى الحق منه، وليس بينه وبين الذات إلا تجلياتها الذاتية الوجوبية التي لا مدخل فيها لمخلوق والتي لا تقتضى غيرًا أو سوى، ولكن تلك التجليات ليست بحجب إذ لا تحجب ما وراءها، ولكنه بالطبع لم يرَ كيانه الذاتي الذي هو فوق إدراك كل مخلوق ولا يمكن لمخلوق أن يدرك أبداً حقيقته، وإنما رأى التجلي الأكبر له اللائق بمرتبته بحيث لم يشك أنه يرى ربه، أي يدركه الإدراك الكلي الذي لا ريب فيه، ولذا فلقد رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَربه الرؤية اللائقة بذات ربه وبحقيقة مقامه، ولقد كان لكل كياناته وحواسه الظاهرة والباطنة نصيبها من تلك الرؤية، ولكن لا دخل لجهاز البصر المادي بشيء من ذلك، بمعنى أن آليات عمله لا دخل لها بمثل هذا الإدراك.
ومن العجيب أن تذكر المرويات أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ دنا من جبريل (عليه السلام) أو أن جبريل تدلَّى إليه مع أن نفس المرويات تذكر أن جبريل كان رفيقه في المعراج!!! لا تتعجب إنها المرويات!!
***
إنه لكي يدرك العبد أي شيء يتعلق بالإله الأقدس فإنه لابد من أمرين: أن يدنو العبد بتزكية نفسه وخضوعها لربها وبالذكر الدائم لله تعالى وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}، وأن يتدلى الحق سبحانه إليه وهو يتضمن التنزل بالتجلي، فلا يمكن لمخلوق أن يدركه على ما هو عليه، والتجلي يكون بقدر مرتبة الإنسان وطاقته ووسعه، ومهما أدرك الإنسان من التجليات الإلهية فإنه لا يدرك كنه الذات ولا يمكن أن يرى الله تعالى على ما هو عليه.
***
إن من أثاروا في أمر الإسراء والمعراج مشكلة الجسد والروح لا يعلمون ما المراد بالروح أصلا، والحق هو أن الإنسان موجود بأنانيته His I-nessونفسه، والنفس هي الإنسان الحقيقي المخاطب والمكلف، وحركة النفس الواعية في أقطار السماوات والأرض هي أمر كاف تماما للإنسان وهو يختلف تماما عن الرؤى المنامية اللاإرادية، وهو يختلف أيضًا عن تيقظ ملكة الخيال وإدراكها للعوالم اللطيفة، فالمعراج يعبر عن أمرين، رقيّ النفس الإنسانية واقترابها الواعي من ربها وتجاوزها المقامات والدرجات صعدا إليه، وكذلك التجوال الواعي للنفس الحقيقية في أقطار السماوات لرؤية الآيات الكبرى فيها.
ومن العجيب أن يجادل الناس في أمر المعراج ويزعمون أنه كان بما أسموه بالروح فقط مع أن الآية تقول: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}، لذلك فالنبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ رأى ببصره ما يعز على غيره أن يراه ببصيرته، بل إنه لكماله ظل بصره متعلقا بالمشهد الأعلى ولم يفتتن بما هو دونه من آيات وتجليات.
ولا يعني هذا أنه يمكن رؤية الذات الإلهية العلية بالعين المعروفة وإنما يدرك العبد بكيانه الجوهري تجليا إلهيا فيغني ذلك عن الحواس الظاهرة والباطنة فهي ليست إلا آلات للتمهيد لذلك الإدراك، فإذا ما تحقق بدونها فليس ثمة حاجة إليها، فالإدراك الكياني يؤدي إلى عين ما جعلت الحواس آلات لتحصيله، ويترجم الكيان مشهده إلى ما كان من المفترض أن تفصِّله الحواس.
***
إنه لابد من الدنو حتى يكون هناك تدل، وذلك أمر بين العبد وربه، ولذلك أوحى عندها إلى عبده ما أوحى، والله محيط بكل شيء، فالعروج إليه ليس حركة في المكان ولا يستلزم قطع مسافات في الأكوان، فلا محلّ للقول بأن العروج إليه هو الحركة على منحنيات في الفضاء وليس على خطوط مستقيمة، ولكن الراقي إليه يمر عبر حلقات ويجد أنه يرتقى ارتقاء متصلا على طريق لولبي صاعد وليس على سلم ذي درجات مثلا، وما الحركة المادية في الفضاء إلا مثال مضروب لهذا، فالإنسان بعمله بمقتضى أموره الذاتية يسبح بحمد ربه وذلك هو الدوران الذاتي حول الاسم الذي يربُّه، ولكنه في نفس الأمر يصعد بتزكية نفسه إلى ربه فبإكماله حلقة ذاتية يجد أنه قد صعد درجة إلى ربه.
*******
ومن معاني النجم آيات القرءان، فهي التي كانت تنزل من مكانها العلي الحكيم بالوحي، وكان ذلك في حينه حدثاً كونياً جليلا، فالقرءان هو الوحي الذي كان يوحى إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، ولا يوجد إنسان غيره كان من الممكن أن يتحمل هذا التنزل أو يتلقى هذا القرءان من لدن حكيم عليم.
والرسول الذي صنعه الله تعالى على عينه واصطنعه لنفسه لا ينطق عن الهوى أبدا، فكل نطقه هو بالحق للحق في الحق، ولكن لا يجوز لعبيد المرويات الاستناد إلى ذلك للزعم بأن ما دونه الرواة في القرن الثالث الهجري هو عين ما كان ينطق به الرسول، كما لا يجوز لغيرهم أن يزعموا أنه كان مجرد إنسان عادي تلقى القرءان من ربه وبلغه للناس وانتهى أمره.
***
إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَباستيعابه التفصيلي لحقائق الأنبياء السابقين وأذواقهم وعلومهم ومعارفهم الذهنية والوجدانية يكون قد تجاوز مقاماتهم واحدا بعد الآخر، ثم بدأ في التحقق بمقام الروح الأمين فبلغ بذلك المنتهي المسموح به لمخلوق من مخلوقات الله تعالى، وهذا هو المقام الذي لم يعد فيه بينه وبين ربه مخلوق آخر، والمأوى هنالك هو الحق سبحانه فعنده المأوى اللانهائي المطلق فبدخوله جنة المأوى انفرد بربه وانفرد ربه به، وتلك أعلى مراتب القرب من الله تعالى، وكان إدراكه له أعلى إدراك ممكن لمخلوق، ولقد كان ذلك الإدراك بكل قوى وجوده وعندها يكون للحواس نصيبها منه ولكن ليس بالطرق المألوفة، فهي لم تكن سببا ولا آلة للإدراك، وإنما تحقق لكيانه الإنساني من الإدراك ما يتحقق في تلك الحياة بالحواس دون حاجة إلى تلك الحواس، ولذلك فما زاغ البصر وما طغى لأنه لم يعْدُ قدره ولم يتجاوز حدوده.
والقول بأنه رأى جبريل هناك صحيح ولكن ذلك كان قبل أن يتحقق له الإدراك المذكور، فرؤيته جبريل على صورته الأصلية تعنى أنه قد وصل إلى مقامه واستوعبه ثم تجاوزه، وليس من مقاصد الترقي الاطلاع على الغيوب الكونية وإنما هو أن يقترب الإنسان من ربه بالتحقق بكمالاته، وهذا قد يكون مصحوبا برؤية الغيوب الكونية في كل مرتبة يصل إليها أو يتجاوزها ولو أعجب بها لوقف عندها، فرؤية جبريل عليه السلام مرتين إشارة إلى استيعابه لمرتبته وتجاوزها ظاهرا وباطنا، أما قوله تعالى {ثم دنا فتدلى} فإشارة إلى اقتراب منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَوتجلٍّ من الرب سبحانه فلكي يتحقق الإدراك الفؤادي الذي يسبق الإدراك الكلى الشامل لابد من دنو من العبد وتدلٍّ من الرب وفي ذلك إشارة إلى أنه لن يعرفه سبحانه أحد على ما هو عليه.
***
المعراج هو صعود ورقي وتجوال حقيقي وسفر وانتقال للنفس الإنسانية الحقيقية، وهي الكيان الإنساني الجوهري، في أقطار السماوات وما فوقها وهي في حالة يقظتها وتمام وعيها لترى من آيات الله الكبرى.
والإسراء والمعراج هما قطبا حلقة رقي وعلو للكيان الإنساني، لذلك فهما يتبادلان التأثير المؤدي إلى هذا الرقي.
***
إن المعراج هو إشارة إلى صعود وتجوال حقيقي وسفر وانتقال للنفس الإنسانية الحقيقية في أقطار السماوات وما فوقها وهي في حالة يقظتها وتمام وعيها، ولابد لأول معراج أن يكون مسبوقا بالإسراء، والإسراء هو تجول وسفر وانتقال واعٍ حقيقي للنفس الإنسانية الحقيقية في أقطار الأرض وفي عالم الشهادة وهي في حال يقظتها وتمام وعيها، وهو يعبر أيضاً عن اكتمال الكيان الإنساني الظاهري واكتمال الاستعداد لبدء المعراج.
ولقد قصّ النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ على الناس كيف ارتقى رقيا سريعا حتى تجاوز كل المقامات والدرجات ووصل إلى المرتبة الأعلى فكان بذلك الآية الكبرى، ورأى الآية الكبرى، فرووا عنه ما استوعبوه، ولكن عدم التدوين أدَّى إلى اندثار أكثر الأخبار، وظل الرواة يتناقلون شفاهيا ما تبقى منها عبر عشرات السنين قبل عصر التدوين.
ولما كان القرءان قد تكلم بإيجاز شديد عن الإسراء، وعبَّر عن المعراج بآيات موجزة متشابهات فقد لجأ القصاصون لتلبية طلبات الناس إلى اختلاق وقائع وإلى استيراد أساطير من تراث الفرس وأهل الكتاب لمضاعفة حجم الأثر إلى أقصى حد ممكن.
فمروية المعراج تشير إلى أصل صحيح، فلابد للنفس بعد ظهورها وبسعيها إلى ربها من الترقي من مرتبة أولية إلى مرتبة نهائية، ولابد من عمل في عالم الشهادة للوصول إلى العبودية القصوى والمرتبة العليا، ولابد من تحقق لطائف النفس بكمالاتها ومن تذوقها لمقامات من جُعلوا أئمة كل عالم لطيف، ولابد لخاتم النبيين من تجاوز كل العوالم اللطيفة والانفراد برب العالمين.
والترقي مفتوح إلى ما لا نهاية، والمقصود بالمرتبة النهائية في الرسالة هي نهاية ما يصل إليه الإنسان في حياته الدنيا.
***
إن المعراج هو اسم يُطلق على مجموعة التجارب السامية التي يمر بها النبي في سعيه نحو ربه وتلقيه الوحي منه وتحققه بمراتب الكمال، وهذا التحقق يتم بكل قوى وجود النبي وكل كياناته، وقد أشارت إليها سورة النجم.
ويجب العلم بأن جنة المأوى والسدرة وغيرها أجلّ من أن تكون أكوانا مادية كالأرض مثلا، ولكنها أكوان واقعية حقانية أعظم وجودا من الأرض، وكذلك المعراج هو أكثر حقانية وواقعية من كل حقائق الأرض، وعندما يتحقق الإنسان بالحياة الحقانية في الدار الآخرة سيدرك عندها أن كل حياته الدنيوية بالنسبة لها كانت كأضغاث أحلام، أما السؤال هل الإسراء كان بالروح أم بالجسد فهو سؤال خاطئ أصلا، ومن طرحه لا يعرف الفرق بين الروح وبين النفس، وهو من نتائج غلبة التصورات المادية الإسرائيلية الأعرابية على المذاهب وطبع الناس بطابعها.
ولما كان المعراج من الأمور المتشابهات لكونه يسمو فوق كل الخبرات البشرية العادية فلا توجد تعبيرات لغوية لشرحه وبيانه، وكل ما يمكن هو الإشارة إليه بالرموز.
***
ويجب العلم بأن كلمة "رؤيا" لا تعني بالضرورة رؤيا منامية، ومن الغريب أن المسلمين الذين من المفترض أنهم يؤمنون بالغيب ويعلمون أن النبي الخاتم كان يتلقى الوحي من عالم الغيب تغلب عليهم التصورات المادية الفجة ويكفرون حقيقة بالغيب، وهذا بالطبع من تأثير الطبيعتين الإسرائيلية والأعرابية اللتين غلبتا على المذاهب السلفية الأموية العباسية بشتى صورها.
أما المرويات الشائعة فقد دخلها كثير من أساطير الفرس وأهل الكتاب، ولكن ذلك لا يجوز أن يُتخذ ذريعة لنفي المعراج، فلا نبي بدون معراج!
ويجب العلم بأن التعبير عن التجارب السامية الخاصة بصفة البشر هي فوق الإدراك العادي ولا يمكن التعبير عنها إلا بأسلوب رمزي؛ أي بآيات متشابهات!
ورغم أن الرسول لم يتحدَّ أحدا بالإسراء أو المعراج إلا أن منكري النبوة في قرارة أنفسهم مصرون على أنه يجب اعتبارهما معجزتين ليتمَّ من بعد نفيهما بحجة أن الرسول لم يأت قومه بآية!!! وهم في الحقيقة يتهمون القرءان بالتناقض، فالله تعالى يعتبر كتابه آية وآيات!
وكذلك طالما أثبت الله تعالى العلم ببعض الغيب لبعض رسله، وقال إنه يظهر على غيبه من ارتضى من رسول فلا يجوز لأحد نفي علم النبي ببعض الغيوب بإذن الله تعالى وإظهاره، وما المعراج إلا رحلة في عالم الغيب تجل عن الحسابات والقيود الزمكانية.
***
إن كل تجارب السمو والرقي الجوهري يطلق عليها إجمالا اسم المعراج (يمكن إطلاق أي اسم آخر عليه)، ذلك لأنها تعبر عن الاقتراب الفعلي من الله تعالى (وهذا لا يعني قطع مسافات مادية)، ولابد لكل نبي من القسط الأوفر منها! ولكن المكذبين بعالم الغيب -وإن كانوا محسوبين على الإسلام- لا يأبهون بها، فهم يريدون الدين مدونة قانونية وجدلا بيزنطيا ومقولات يتصارعون بها مع الآخرين، وهم يتجاهلون حقائق عديدة متعلقة بالقرءان، منها أن فيه آيات متشابهات، وأن تأويله سيأتي للناس حينا بعد حين حتى يتبين لهم أنه الحق، وأنه كتاب مبارك متضاعف العطاء عبر الزمان.
إن المعراج يعبر عن الرقي الإنساني الجوهري بعد الوجود في عالم الشهادة، وأثناء هذا الرقي يتحقق الإنسان ذو المدى الأبعد بمقامات من سبقوه إلى عالم الشهادة واحدا تلو الآخر ويتجاوزهم واحدا تلو الآخر، ويستوعب كل تفاصيل مقاماتهم ويتعرف على الأمور الموحاة في كل عالم من العوالم اللطيفة المتتالية والمتداخلة وعلى الكائنات التي تعيش في هذا العالم وتدبره وتفصله بإذن ربها، هذه العوالم هي أكثر حقانية من هذا العالم المادي الطبيعي، ولكل واحد من الأكابر معراجه الخاص.
***
إن التعبير عن الحقائق العليا التي هي خارج نطاق الخبرة البشرية يستلزم دقة عالية، فالقول بأن المعراج بالجسد يستلزم القول بالتجسيد وبتقييد الإله في مكانٍ ما، وهذا غير صحيح، والناس لا تعرف قيمة النفس ولا تعلم أنها هي الإنسان الحقيقي، وفي الوقت ذاته فإن رقي الإنسان ككل رغم أنه لا يعني أساسا إلا رقي هذه النفس وتحققها بدرجات من القرب الإلهي الحقيقي فإن الناس ستظن أن المعراج حلم أو رؤية ليلية لو قيل لهم ذلك!! وهو بالطبع أكبر من ذلك بكثير، هل وضحت المشكلة؟! لذلك قلنا إن المعراج يعبر عن الرقي الإنساني الجوهري بعد الوجود في عالم الشهادة ورحلته صعدا إلى ربه، رغم أنه لا يترتب على ذلك أي انتقال مكاني، فالله تعالى ليس محصورا في أحد أركان الكون!
***
إنه إذا كان الإسراء هو ترقٍّ في عالم الشهادة ويترتب عليه اختزال الفواصل المكانية فالمعراج هو ترق في عالم الغيب ويترتب عليه اختزال الفواصل الزمنية، أو بمعنى آخر المعراج هو رحلة في عالم أكثر أبعادا من الإسراء، وهذا ما يتيح تجاوز القيود الزمانية فضلا عن تجاوز أكبر للقيود المكانية، فالأبعاد الإضافية تؤدي بالضرورة إلى التغلب على قيود العوالم الأقل أبعادا.
من الآيات الكبرى التي رآها النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ التقديرات الإلهية في عالمها، فلقد رآها ببصره، فما زاغ وما طغى، وهذا يعني تحققه برقي فريد.
هذه التقديرات متعلقة بمصائر الناس في الدار الآخرة، وتحققها لا جبر فيه ولا إكراه، وإنما هو للكمال المطلق للعلم.
*****
إن ثمة تناظرا بين معراج النبي المشار إليه بعبارات متشابهات في أول سورة النجم وبين ما حدث لموسى في سينين.
فالأفق الأعلى يناظر الوادي المقدس طوى، والسدرة العلوية تناظر الشجرة، والوحي العلوي الغامض المسكوت عنه يناظر الكلام المسموع المذكور في القرءان والدنو والتدلي يناظر التجلي، وما يغشى السدرة المشار إليه يناظر التجلي للجبل، وصدق رؤية الفؤاد وثبات البصر يناظر ما حدث لموسى عندما تجلى ربه للجبل، والفرق بين النبيين الكريمين هو الفرق بين الأمرين.
*******
1