top of page

من هدي القرءان الكريم

سورة البقرة

سورة البقرة 254

سورة البقرة 254


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون} [البقرة:254]


الإنفاق في سبيل الله هو أمرٌ قرءاني وركن ديني مفتوح، يتم التأكيد عليه مرةً بعد أخرى في القرءان.

والخُلَّةٌ هي شدة الصداقة والمودة بين شخصين المترتبة على توافق واتساق فيما بينهما، وهي مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين، وسميت بذلك لأنها تتخلل النفس، أو لشدة الحاجة إليها. ومنه سمى الخليل خليلا، لاحتياج الإِنسان إليه، فالخليل يتبادل الفعل والتأثير مع خليله ويتفقان فيما يدينان حقًّا به، وهي أقوى علاقة يمكن أن تنشأ بين شخصين، فالخليل هو الصديق الحميم، والزوجة هي صاحبة للرجل، ولكن علاقة الصحبة، والعلاقة الزوجية، لا ترقى في القوة إلى علاقة الخلة، فقد يتنافر المرء مع زوجته من حيث الطباع والدين الحقيقي.

أما الشفاعة فهي مأخوذة من الشفع بمعنى الضم، وتطلق على انضمام شخص إلى آخر لنفعه أو لإنقاذه أو نصرته، وأكثر ما تستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى ما هو دونه.

والنفع قد يكون ماديا، وقد يكون معنويا، وكما تكون الخلة في الحياة الدنيا تكون الشفاعة كذلك، بما فيها الجانب المعنوي، فقد يتلقى أحد الناس مددًا معنويًّا من حيث لا يدري من كائن فائقٍ سام، أو من أحد الصالحين لأي سبب من الأسباب.

وزمان الانتفاع بالخلة أو بالشفاعة هو هذه الحياة الدنيا، لذلك سيأتي لا محالة يومٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ، وهو اليوم الذي تثبت فيه درجة الإنسان، ولا يمكن من بعد تغييرها، وهذا ما سيحدث في الدار الآخرة.

وهذه السورة تؤكد مرة بعد أُخرى وجوب الإنفاق في سبيل الله، وهذه الآية تحث الناس على اغتنام الفرصة المتاحة لهم في هذه الدنيا للتحقق بأعلى درجات ممكنة من الكمال، ذلك لأن كل ما هو آتٍ قريب، وسيأتي لا محالة يومٌ يكون قد تقرر فيه مصير كل إنسان، يومٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ.

*******

الخلة هي ذروة الصداقة والمودة، وهي مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين، وهي حصيلة التوافق بينهما، لذلك فالمرء على دين خليله، فلا يخالل امرئٌ آخر إلا لتوافق بينهما في بعض أو أكثر الأمور.

والشفاعة مأخوذة من الشفع بمعنى الضم، وتطلق على انضمام شخص أعلى إلى آخر أدنى لنفعه أو نصرته، وانتفاع الأدنى بالأعلى يكون وفق طبيعة الأمر، فالمعلِّم المزكي يشفع في المتعلم بما يفيضه عليه من العلم والهدى والتزكية، وقبول الشفاعة هو بقدر انتفاع المتعلم بذلك.

وبالإنفاق على ذوي الحاجات فإن المنفق يعبد الله بحواسهم وملكاتهم، ويظل يجني ثمار ذلك ما بقي أثرٌ لذلك الإنفاق.

فدوران عجلة رأس المال هي من وسائل إحياء الأمة وتقوية بنيانها وتماسكها.

وقوله {مِمَّا رَزَقْنَاكُم} يشير إلى حقيقةٍ عادة ما يتجاهلها الإنسان، وهي أن ما به من نعمة إنما هو من الله، وأن ما لديه من مال إنما هو مستخلف فيه، فليس من حقه وليس من الأدب أن يقول "إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي".

وقوله سبحانه {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} حث شديد على التعجيل بالإِنفاق، وذلك من قبل أن يأتي اليوم المشهود، يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَة، يَوْمٌ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون.

ولما كانت آياتٌ أُخرى قد نصًّت على وجود شفاعة مقبولة بإذن الله فهذه الشفاعة تكون في الدنيا والآخرة، ولكن قبل اليوم المذكور.

وقوله سبحانه {وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ} ينص على حكمٍ من أحكامه، فكل من كفر بشيء مما ذكره الله تعالى يكون قد ظلم نفسه، وعادة ما يظلم معها غيره.

وكذلك لا يظلم إلا من كفر بشيء مما ذكره الله تعالى، فالآية تخبر عن أحدهما وتعرف الآخر في نفس الوقت.

*******

تذكر الآية ركن الإنفاق في سبيل الله تعالى، وتؤكد مدى أهميته لتحديد وتعيين مصير الإنسان في الدار الآخرة، ولابد من يوم لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ، والخلة هي أعلى مراتب الصداقة، أما الصحبة فهي فعل محايد يمكن أن يكون بين مؤمن وبين كافر، أو بين إنسان وبين جماد، فلا اعتبار له إلا عند عبيد السلف، فإذا كان الْمَرْءُ سيفر مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، في يومٍ كهذا فما هي قيمة الخلة؟

ونفي الشفاعة في اليوم المذكور الذي هو بعد الحساب والفصل وبعد أن يعلم كل امرئٍ درجته في الجنة أو النار، فالشفاعة تنفع في الدنيا وقبل الفصل النهائي بين الناس، وهي تعبر عن مدى انتفاع الناس بأنوار وهدي الصالحين منهم، ولا محسوبية فيها ولا وسائط ولا ظلم ولا محاباة، فمثلما يكون الطالب النجيب أكثر انتفاعا بمجهود معلمه وربما أكثر من ابنه الذي هو من صلبه يكون المؤمن المخلص أكثر انتفاعا بهدي وأنوار الصفوة الأخيار، فهذه شفاعتهم فيه، فالأمر محكوم بسنن حقانية.

وتبين الآية أن الكافرين هم الظالمون الحقيقيون؛ فهم جحدوا وأنكروا حقائق هي أحق منهم هم بالوجود، واعتدوا بذلك على حقوق إلهية، وذلك هو الظلم الأعظم.

*******

1

bottom of page