من هدي القرءان الكريم
سورة الحج
سورة الحج 45
{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} الحج45
الظلم من أركان منظومة الصفات الشيطانية، وهو من مسببات الهلاك في هذه الدنيا، فلابد من القصاص من الظالمين في هذه الدنيا، ولو على المستوى الجوهري فقط.
إن أهل القرى (الدول أو البلاد أو الكيانات القائمة بأمورها مهما كان نظامها) يقترفون الظلم ضد ربهم وضد أنفسهم (أي ضد بعضهم البعض)، وعندما لا يُعاجَلون بالعقوبة يظنون أنهم على حق، أو يبدؤون في تناسي أو ازدراء التهديد والوعيد الإلهي فيتمادون في الظلم، وهم يجهلون أن الله تعالى يملي لهم وأنه يستدرجهم من حيث لا يعلمون.
وهم بشدة حرصهم على اقتراف الظلم ترسخ صفة الظلم في أنفسهم بارتداد آثار أعمالهم الظالمة عليهم؛ فيصبحوا ظالمين، ثم يتفاقم الأمر فيصبحون أمة واحدة موحدة على الظلم؛ أي يصبحون قرية ظالمة، فالقرية الظالمة هي كيانٌ إنساني كبير أجمعوا على اقتراف الظلم حتى أصبح صفة راسخة فيهم، وحتى أصبح الظلم فعلا مستمرا لهم، يتلبسون به في حياتهم ومعاملاتهم.
وعندها تحق السنة الكونية المذكورة في الآية عليهم فيهلكون وتهلك قريتهم معهم، كان ذلك يحدث بآيات كونية إلهية على المستوى الظاهر، هذا فضلا عن هلاكهم على المستوى الجوهري أيضا؛ فهم بتماديهم في الظلم يخسرون الدنيا والآخرة.
أما بعد ختم النبوة وإرسال الرسول رحمة للعالمين فلم يعد الإهلاك يتم بآية كونية خاصة وإنما بتسليط الآخرين على الظالمين، هذا بالإضافة إلى الإهلاك على المستوى الجوهري الباطن، ولذلك يجب ألا يغترَّ الناس بمظاهر الثراء المادي عند الأمم الظالمة ولا بالتمكين الظاهر للظلمة، يكفيهم عذاب وآلام أنفسهم الخربة.
فالآية تتضمن سنة إلهية كونية (قانون)، كما تتضمن تهديدا ووعيدا، وهي بذلك تجعل الظلم من كبائر الإثم على كافة المستويات وتحذر الناس من آثاره وعواقبه.
وما حاق بالأمم السابقة هو الذي حاق بهذه الأمة؛ فالسنن لا تبديل لها ولا تحويل، وقد يعز على المسلم أي انتقاد لما يسمي بالخلافتين الأموية والعباسية، ذلك لأن الدولة الإسلامية كانت الأقوى على مستوى العالم كله في عصر الدولة الأموية وفي صدر الدولة العباسية، وقد لا يتخيل أن ثمة أخطاءً جسيمة وجرائم خطيرة قد اقترفت في تلك العصور، والحق هو أنه لا حصر لعدد الجرائم الفادحة التي اقترفها هؤلاء الخلفاء والتي دفع المسلمون والبشرية جمعاء ثمنها غاليا وما زالوا يدفعون، ولن ينصلح حال المسلمين والناس أجمعين إلا بمعرفة تلك الأخطاء والجرائم ومعالجتها.
ويجب العلم بأن القوة التي تمتعت بها الدولة الإسلامية في تلك العصور إنما ترجع أساسا إلى الطفرة الهائلة والاندفاع الأعظم الذي صاحب بداية الانطلاقة الإسلامية المظفرة وكذلك التفوق الهائل لمنظومة القيم والمفاهيم الإسلامية على سائر الأديان والمذاهب، ولكن الانقلاب الأموي قد جعل الحكم حكما استبداديا جبريا عضوضا جمع بين مساوئ الحكمين البيزنطي والفارسي وبين مساوئ القبلية والعصبية والجاهلية والفوضوية العربية، ولم يأخذ من البيزنطيين أو الفرس شيئا من أسباب الحضارة الحقيقية، فلقد كانت السيادة الفعلية لمنظومة القيم الجاهلية والتي يسودها الظلم والقهر واستباحة حقوق الغير والولع بسفك الدماء والقسوة والوحشية والبربرية وازدراء المرأة والشعوب الأخرى, وكان القليل من ذلك كفيلا بأن تأكل تلك الدولة نفسها بنفسها فلم تعش الدولة الأموية إلا تسعين عاما انتهت بمذابح مروعة هائلة أباد فيها العباسيون القبيلة الأموية إبادة شبه تامة، ولم تستمر الدولة العباسية حقيقة إلا حوالي مائة عام وعشرة ثم تحول ما يسمى بالخلفاء إلى دمى يتلاعب بها شرار الخلق.
ومن الجدير بالذكر أن صياغة المذاهب الإسلامية إنما تمت في ظل تسلط أولئك العتاة الظالمين المجرمين على أمور المسلمين وتلك الصياغات هي المسؤولة عن تكريس الظلم والطغيان وعن تردي كل من ادعى انتسابه إلى الإسلام إلى ما دون مرتبة الأنعام, ولم يكن تعصب هؤلاء للإسلام انطلاقا من التمسك بأسسه وقيمه أو بمنظومات سننه بقدر ما كان نتاجا لتعصب الإنسان لما يجد عليه آباءه.
إن اندثار قدر هائل من التراث الديني الحقيقي وتكريس الصياغات الخاطئة للدين وهجران القرءان الكريم واندثار المثل والقيم الإسلامية العليا فيما يتعلق بولاية الأمر كل ذلك كان من الكوارث التي حاقت بالمسلمين وما زالوا إلى الآن يترنحون لهولها ويئنُّون من ثقلها، ذلك لأنهم خالفوا عن أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ولم يتصدوا للفئة الباغية التي قادها معاوية.
أما غزو الأتراك العثمانيين للشرق الأوسط فقد قضى على مراكز الإشعاع الحضاري فيه، تلك المراكز التي ظلت عامرة منذ فجر التاريخ وظهور الجنس البشري، وكان تدميرهم أشد وطأة من تدمير الرومان والبيزنطيين والمغول، إن هؤلاء البيزنطيين عندما أُجبروا على الجلاء عن مصر كان عدد سكانها أكثر من اثني عشر مليونا وانتهى حكم العثمانيين الهمجي البربري بعد أن هبط عدد سكانها إلى حوالي مليونين ونصف.
إن مصر التي كانت في عصر المماليك مضرب الأمثال في الغني وعز الإسلام وقوة هائلة يرتعد الغرب منها حتى أسموها برأس الأفعى صارت ولاية فقيرة مهجورة يتناوب على حكمها لص عثمانلي من ورائه لص عثمانلي لا هم له إلا نزح أعظم قدر من مالها، وهكذا أقفرت الأراضي العامرة واندثرت أفرع النيل تحت الرمال واختفت مدن كانت عامرة بالخير.
لقد ترك البيزنطيون مصر وحالها كما وصفه عمرو بن العاص في رسالته المشهورة، وكانت هي سلة غلال الإمبراطورية كلها، وكذلك تركوا الإسكندرية كما وصفها أيضا عمرو وكانت بحق أعجوبة المدن، ولم يكن يضارعها في العالم كله إلا مدينة القسطنطينية، أما العثمانيون فلقد تركوها قرية خربة يسكنها بضعة آلاف من الصيادين.
ولقد كاد أهل الشام والعراق ينقرضون أيام حكم العثمانيين، أما أهل الجزيرة العربية فلقد تحول أكثرهم إلى قطاع طرق يتعيشون من السطو على قوافل الحجيج وأصبح على الدولة الإسلامية المسيطرة على الحجاز أن تجرد بصفة دائمة حامية عسكرية للدفاع عن الحجيج، كانت هذه هي الخلافة العثمانية التي يتباكى عليها الجهلة إلى الآن.
إن العثمانيين حققوا لشياطين الإنس والجن ما عجز الصليبيون والمغول والتتار أن يحققوه من قبل، وما عجزت الإمبريالية الغربية أن تحققه من بعد؛ إبادة أكثر سكان قلب العالم المحسوب على الإسلام، وضربهم بأمراض جهلٍ وتخلف، لم تقم لهم بسببها، وربما لا تقوم لهم أبدًا بسببها قائمة!!
ولقد صار المسلمون كبني إسرائيل من قبلهم بأسهم بينهم شديد وأصبح الاحتكام إلى السلاح أيسر من الاحتكام إلى دين أو عقل أو منطق، واشتبكت كل دويلة إسلامية في حروب ضروس مع كل من جاورها من بلدان حتى ولو كانت إسلامية، ووالى بعضهم أعداء الدين وظاهروهم على المسلمين، و بذلك كفروا بكثير من أركان الدين، وفى خضم تلك الظلمات المتراكمة المدلهمة صاغ رجال الكهنوت مذاهبهم فنأوا بأنفسهم عن كل ما يمكن أن يجلب عليهم المتاعب فأنكروا مقاصد الدين العظمى وتخلوا عن أكثر أركانه الكبرى وفرغوه من جوهره ولبه وصرفوا جل جهدهم في فروع وشكليات العبادات والطقوس وأحكام الوضوء والطلاق والحيض والنفاس فصار ذلك هو الفقه.
وعندما أمر أحد الخلفاء الضالين بترجمة بعض كتب الإغريق ظنّ خاصة المسلمين أن ما فيها هو الحق المبين وتصوروا أن عليهم واجب إعادة صياغة عقيدة المسلمين لتتفق مع أقوال الفلاسفة الغابرين فنشأ ما سمِّي بعلم الكلام.
لكل ذلك فإن الهلاك الذي حاق ببلاد المسلمين وأدى إلى تسلط الأمم وتكالبهم عليها إنما كان أساسا بسبب الظلم الذي ألحقوه بأنفسهم وبسبب تقصيرهم في التصدي لهذا الظلم وأهله.
***
إن أسباب انهيار الكيانات المحسوبة ظلمًا على الإسلام إنما ترجع إلى استلهامهم وتبنيهم واتباعهم لما أدَّى إلى انهيار من سبقهم من الأمم واتباعهم سنن من قبلهم مثل:
الظلم، الطغيان، الاستكبار في الأرض، العتو، الفساد، الإفساد، انعدام المساواة فأصبح القانون سيفًا بيد بعضهم يسلطه على الآخرين يدوسه الملأ بأقدامهم ويخافه الآخرون ويتملصون منه كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا، وجود طبقة كهنوتية تجعل الدين سيفا مسلطا على رقاب الناس وقيدا على حريتهم وعلى استخدامهم لملكاتهم وإصرا وأغلالا عليهم يزداد به الطغاة طغيانا وسائر الناس ذلا وخضوعا، وجود طبقات أعطت لنفسها سلطات تلك الطبقة الكهنوتية، سيادة قيم الترف، ازدراء الشورى والتمسك بالاستبداد، ازدراء الآيات الكونية والنفسية أو الإعراض عنها والاكتفاء بآراء الكهنوت وتصوراتهم، التمسك بما ألفوا عليه آباءهم وأسلافهم من آراء ومعارف انقضى عصرها وعفا عليها الزمن، ازدراء حقوق الإنسان وامتهان كرامته، انعدام الاستعداد للقبول بالآخر والذي قد لا يكون إلا مسلما ذا مذهب مختلف، تحريف الكلم عن مواضعه، تمزيق الدين واعتناق صيغ محرفة منه، الجهل بمقاصد الدين العظمى والتمسك بكل ما يمنع تحقيقها، العداء المستحكم الذي تكنه كل دويلة إسلامية للأخرى وتربصها بها، العدوان غير المبرر على الشعوب المجاورة، استخدام الدين كوسيلة لتأجيج نيران الحروب مع الآخرين، التقاعس عن القيام بالمهام المطلوبة من الأمة المسلمة وعلى رأسها الدعوة إلى الإسلام بالحكمة وتقديم الأسوة الحسنة.
وهكذا صار طغاة ما يسمى بالعالم الإسلامي منذ عصر الأمويين أشد الناس بأسًا على شعوبهم، وسرعان ما أصبحوا أذل الناس أمام أعدائهم بعد أن استبعدوا شعوب المنطقة الأصلية ومنهم العرب من العمل بالجندية واعتمدوا على الرقيق للدفاع عنهم فسرعان ما تمكن هؤلاء منهم وتسلطوا عليهم فلم يبق لهم إلا أن ينتصروا من مواطنيهم العزل وأن يثخنوا فيهم.
*****
1