من هدي القرءان الكريم
سورة البقرة
سورة البقرة 44
سورة البقرة 44
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {44}
إن دأب المنافقين والمتكسبين بالدين أن يمارسوا التدين على الآخرين، ما أسهل أن ينقد الإنسان غيره، ما أسهل أن يرى عيوب الآخرين الصغيرة ولا يرى عيوب نفسه الكبيرة، وما أصعب أن يحاول الإنسان إصلاح نفسه، والمتكسبون بالدين يرددون بألسنتهم كلمات الكتاب الإلهي المنزل، فهم على علمٍ بنصوصه، ولكنهم لا يقرؤونه ولا يتدبرونه، فهم لا يسمحون لنصوصه ومعانيه بالتسرب إلى أعماقهم وإصلاح نفوسهم، وهم بذلك قد أهملوا إعمال ملكاتهم الذهنية في أهم مجال يمكن أن يعملوها فيه؛ المجال الذي سيترتب عليه مصيرهم، فهم بذلك لا يعقلون أي لا يستطيعون استيعاب وتمثُّل الحقائق بحيث يمكن أن يفيدوا منها.
والمشكلة هي أن الإنسان لا يؤمن إيمانا حقيقيا بالمعلومات التي يوردها الكتاب، ومنها وجود الشيطان الرجيم الذي هو للإنسان عدو مبين، وهذا الشيطان وجنوده يتسلطون على من فتح لهم طريق نفسه ومهد لهم في قلبه بإعراضه عن ذكر ربه، لذلك هم يزينون له سوء عمله وينفثون في روعه أنه أحسن من غيره، وأن له عليهم حق الطاعة، ويستمر هو في التمادي في غيه وتستمر آثار كل ذلك في التفاقم حتى ينسى نفسه.
والناس عادة لا يريدون من الدين إلا ما يتأمَّرون أو يتسلطون به على الآخرين، فالإنسان يريد عادة أن يمارس نوعًا من الربوبية على غيره، وهو لا يتورع عن ذلك إذا ما أتيحت له الفرصة.
والمطلوب من المسلم أن يعمل على أن يتزكى بالعمل بالأوامر الشرعية من قبل أن يأمر غيره بها، وإلا فإنه سيدسي نفسه بتنمية النفاق والفسق فيها.
*******
الأمر هو طلب تحقيق فعل بالمفهوم العام للفعل.
البرّ هو جماع كل أعمال الخير، وكل عمل خير هو برّ يمكن أن ينتفع به أي كيان، بما في ذلك كيان الإنسان نفسه.
العقل هو اسم الفعل "عقَل، يعقِل"، فكلمة عقل لا تعبر عن عضو من أعضاء الجسم، وإنما تعبر عن نشاط الملكات الذهنية القلبية لاستيعاب مفهوم أو تصور أو قانون أو علم والاستحواذ عليه، كما تعبر عن تمام ونجاح هذا النشاط، وبذلك يكون الأمر معقولا، وبالعقل يميز الإنسان بين ما ينفعه وبين ما يضره.
النسيان هو ضد الذكر، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم.
ولما كان العقل هو من أهم ما يميز الإنسان عن سائر دوابّ الأرض، فإن التصرف بما يخالفه هو أمر معيب ينزل بالإنسان تجاه مرتبة الأنعام.
فإذا كان لدى الإنسان علمٌ بأن سلوكًا معينا يليق به كإنسان عاقل أو لا يليق به من نفس الحيثية فالتصرف وفق علمه يرقى به في درجات الإنسانية والتصرف بما يخالف عن علمه يهبط به في دركات بهيمية أو شيطانية، وذلك وفق نوعية ومدى ذلك السلوك.
ومن التصرفات المعيبة أن يأمر إنسان آخر ببرّ وينسى نفسه، بمعنى أنه هو لا يلتزم بما يأمر به رغم دخوله في نطاق نفس الأمر.
فإذا كان في مقدور إنسان أن يطعم مسكينا، مثلا، فعليه ألا يبخل على نفسه، وأن يبادر هو بإطعامه، قبل أن يأمر غيره بفعل ذلك، فهو بذلك يكون متسقًا مع نفسه، مصدقا لإيمانه وعلمه، وسيكون بذلك أسوة حسنة لغيره، فيكون بذلك قد أمرهم بالبر بفعله قبل قوله، وبذلك أيضًا يكون قد أمر بمعروف، ونهى عن منكر.
ولا يتنافى ذلك مع وجوب تعليم الناس أمور الدين والتمييز بين الأفعال استنادًا إلى أسس دينية حقانية.
ومن الأمور المعيبة سلوك اليهود في العصر النبوي، فقد كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، مع علمهم بأنهم كانوا مأمورين قبل غيرهم بكل أعمال البر وبكل ما هو مقتضى مكارم الأخلاق بحكم ما لديهم من كتاب منزل، وكان من الأولى أن يتدبروا أمرهم وأن يعقلوا ما يتمليه عليهم مكانتهم كأمة كانت تحمل رسالة إلهية، خاصة وأنهم كانوا يعلمون قبل غيرهم عاقبة التمرد على الأوامر الإلهية، وهم يقرون بأن تشريدهم في الأرض كان بسبب خطايا أسلافهم.
وقوله وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ هو توبيخ وتبكيت لهم، وهو يشير إلى أنهم باعتيادهم مثل هذا السلوك قد ألفوه حتى أنهم كانوا ينسون أنفسهم تماما، لا يتناسونها، عند أمرهم الناس بالبرّ.
إن اجتماع هذه الأمور في شخص واحد خطر عليه، هذا رغم أن أخذ بعضها بمفرده قد يكون فعلا طيبا، فمن الأمور الصالحة: الأمر بالبر وتلاوة الكتاب، ولكن إذا كان الإنسان يأمر الناس بالبرّ ولا يعمل هو به أو يعمل بعكسه فهو لا يكون إلا فاسقًا منافقًا أو متلاعبًا بدينه أو متاجرًا به، فأمره الناس بالبر لا يكون إلا لمأرب دنيوي، فهؤلاء هم الذين يشترون بدينهم ثمنًا قليلا.
وقوله تعالى {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ} يشير إلى مدى فداحة ضلالهم وإلى أنهم لم يعودوا يدركون أو يفقهون شيئا مما هو في كتبهم، وذلك أن الدين عندهم أصبح مجرد وسيلة للعلو على الآخرين وانتهاك كافة حقوقهم، وهذا هو حال كل الأديان بما فيها الأديان التي حلت محل الإسلام.
وقوله تعالى {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} يتضمن إشادة بملكات الإنسان الذهنية، وإلى أنها يمكن أن تعصم الإنسان من العمل كشياطين أو كأنعام.
فاستعمال ملكات الإنسان الذهنية هو أمر ديني، ومقصد من مقاصد الدين، ووسيلة لتحقيق المقصد الديني الأعظم الخاص بالفرد، ووجود هذه الملكات هو أصلًا مناط تكليف الإنسان.
فقوله {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} بيان بفضيلة العقل الحقيقي، وكيف أنه يحول بين الإنسان وبين اقتراف أفعال ذميمة، وفي ذلك حث على استعمال ملكات الإنسان الذهنية وتزكيتها.
*******
1