دائرة المعارف
حرف الألف
إخراج أمة للناس
الأمة المقصودة هنا هي الجماعة من الناس التي يجمعها وحدة المقاصد والتوجهات والتطلعات ومنظومة القيم، والأمة يوجد فيها عامل موحد مجمع هو أشبه بالمجال المغناطيسي بالنسبة للمغناطيسات الصغيرة، وهو الذي يسبب انتظامها: Alignment، فهو يرتبها لينتج مجالا هائلا، أو هو أشبه بالمستحث Stimulus في الليزر والميزر الذي يؤدي إلى توليد شعاع ضوئي قوي متسق Very-strong coherent radiation ذي نفاذية فائقة، فوجود الأمة هو الذي يجعل كافة الناس ينتفعون بأي مجهود يقوم به أحدهم ويزيد من قوتهم وفعاليتهم.
وإخراج أمة للناس هو من السنن الكونية التي تحدث من حين لآخر لإحداث طفرات تقدمية على مستوى أو أكثر من المستويات أو لتنفيذ أحكام كونية صادرة ضد قوم من الأقوام، وهذه الطفرات التقدمية ليست بالضرورة في المجال الديني بل في أي مجال من مجالات الحضارة الإنسانية، وطوال كل القرون الماضية كان أكثر الإخراج يتم بوسائل عسكرية، وفي أحيان أخرى كان الله تعالى يدبر الأمر بحيث تخرج من بلدٍ متحضر فئة حاملة للحضارة إلى بلدان أخرى.
ومن الإخراج الذي كان تحقيقًا لقضاء صدر على أمة من المفسدين في الأرض خروج الأشوريين للقضاء على مملكة إسرائيل الشمالية، وخروج البابليين للقضاء على مملكة يهوذا وتأديب بني إسرائيل وخروج القبائل الجرمانية في أوروبا للقضاء على الإمبراطورية الرومانية الغربية، وخروج المغول والتتار للقضاء على الخلافة العباسية الجهلوتية وخروج مصطفى كمال العلماني وحزبه للقضاء على الخلافة العثمانية.
ومن الإخراج الذي كان متعدد الأغراض إخراج الأمة التي علمها الرسول الأعظم وزكاها، هذه الأمة حافظت على القرءان وفتحت المجال لانتشار الإسلام وقضت على إمبراطورية الفرس وعلى سيطرة الرومان البيزنطيين على مقدرات الأمور في الشرق الأدنى، لذلك كانت هذه الأمة خير أمة أُخرجت للناس لاتساع نطاق مهامها وعظيم شرفها.
ومن الأمم الأخرى التي أخرجت للناس على مدى التاريخ: المصريون القدماء، الإغريق، الرومان، المغول والتتار، الرهبان المسيحيون.
ومن الإخراج الذي حدث في العصر الحديث إخراج الأوروبيين للقضاء على عفن الخلافة العثمانية ولتعمير شتى أرجاء الأرض ولنشر الحضارة العالمية في أحدث صورها وتأسيس الدول القائمة الآن برسم الحدود بين القبائل والشعوب ولإدخال الشعوب التائهة المعزولة التي كانت تحيا على هامش العالم إلى التيار العام للتاريخ البشري، ولكن شاب هذا الإخراج جرائم بشعة ومجازر مروعة في حق السكان البدائيين فيما سُمِّى بقارات العالم الجديد فضلا عن سكان العالم القديم!
وقد تكون الأمة التي أخرجت للناس فردا واحدا فيكون سببا لانبعاث وظهور أمم، وممن تحقق فيه ذلك النبي إبراهيم عليه السلام، لذلك كان أمة!
*****
إن إخراج أمة فائقة جديدة للناس لا يمكن أن يتم إلا بتربية أفراد الأمة وتزكيتهم انطلاقا من النهج القرءاني الحقيقي الفعال والتزاما به، وهذا يقتضي معرفة مقاصد الدين العظمي والعمل على تحقيقها وسيادة منظومة القيم الرحمانية والالتزام بالصياغة النقية الحقانية للدين، كما يلزم ألا يثقل الناس كاهلهم بما استحدثه وابتدعه السلف في أمر الدين من علوم مفتعلة لا تنفع تتضمن تفريعات لا حصر لها ولا تتناول إلا الأمور الشكلية، كذلك يجب الابتعاد عما استحدثوه من تأطير وتحنيط وتجفيف وتعليب للدين وصياغته الصياغة الأعرابية الأموية أو الصياغة المدرسية، فإن كل ما استحدثوه هو البدع التي نهوا عنها.
كذلك يجب ألا يثقلوا كاهل الناس بما استحدثه البعض أو نقلوه عن غيرهم من وسائل للتزكية لا تتفق مع المنهج القرءاني، إنه لا يمكن للمكبل بالإصر والأغلال والمثقل بما تراكم عبر القرون من أوزار الانطلاق لإنقاذ غيره فضلا عن نفسه.
ويجب القول بأن جلوس إنسان عند قدمي أحد المتمشيخين يلقي عليه ما يجود به ويلقنه ما يشاء ويوقفه على أقوال السلف أو يقلبه كما يقلب المغسل الميت هو بالضبط ما نهى الدين عنه وما جاء لإبطاله ونقضه وليحفظ للإنسان كرامته، إن الله سبحانه لم يفعل مثل ذلك مع عباده الذين خلقهم والذي هو مليكهم وربهم وإنما جاءهم بالحجج وجادلهم بالبراهين وبين لهم الآيات وطلب منهم أن يأتوه طوعا، وأعلن في آيات بينات أن الإنسان مكرم ومفضل لأنه إنسان وأنه هو الذي حمل الأمانة وأن كل شيء مسخر له، لذلك فإن التربية السليمة هي التي تلتزم بالنهج القرءاني فتزكى نفس الإنسان وتنمي ملكاته القلبية الذهنية والوجدانية وهي التي تتضمن التدبر والتفكر والتفقه وإبداء الرأي والمناقشة والنقد البناء وتمحيص الأفكار والآراء وحب الإنسانية جمعاء والرغبة في نفع الناس وعدم قبول أي زعم إلا مقترنا بالبرهان والحجة.
ومن العجب أن من أحدثوا في الدين المذاهب الكلامية و(الفقهية) واختزلوا الدين وصاغوه تلك الصياغة الشكلية الصورية الطقوسية، وكذلك من قلدوهم واتبعوا ما ألفوا عليه أسلافهم هم الذين حالوا بين الناس وبين الإفادة من الإنجازات العلمية التي كان على المسلمين أن يحققوها وكانوا أولى بذلك من غيرهم فصدوا الناس عن السبيل الحقيقي لربهم وعن الأخذ بأسباب التقدم وحالوا بينهم وبين إعداد القوة التي أُمر المسلمون بها فكان أن تغلبت عليهم شراذم صغيرة من حثالة الأوروبيين في كل مكان حتى إنه قد تمكن شعب صغير محدود الإمكانات كالبرتغاليين من حصار وتطويق العالم الإسلامي وتقطيع أوصاله وإفقاره وإلحاق هزائم مذلة بقوى عملاقة محسوبة على الإسلام.
ولقد تصدى المشايخ بكل قوة لكل اتجاهات التحديث في الدولة العثمانية وحالوا بينها وبين الأخذ بأسباب الحضارة ومنجزاتها مما أدى إلى تمزقها وانهيارها تحت ضربات أعدائها، ولقد حدث في مصر نفس الأمر حتى اضطر محمد علي إلى إرسال الجند إلى أسوان بعيدا عن رقابة المشايخ ليتدربوا وفق النمط الحديث، كما اضطر إلى استحداث تعليم موازٍ للتعليم الأزهري التقليدي مما أدى إلى تمزيق الأمة من بعد.
وفي حين أن مشايخ الدولة العثمانية كانوا يحاربون التحديث بسلاح الفتاوى فإنهم لم يتورعوا عن الإفتاء للسلطان سليم السفاح بشرعية مهاجمة مصر والشام (رغم أنهما كانتا على مذهبه السني) واحتلال أراضيهما وفرض الجزية عليهما بدلا من أن يتعاون مع دولة المماليك التي كانت دولة قوية لصد الهجمات الأوروبية، فكان ما فعله وبالا على الأمة الإسلامية مازالت تدفع ثمنه إلى الآن، كذلك سوَّلوا له مهاجمة الفرس بحجة أنهم شيعة فافتتح بذلك سلسلة من الحروب الطاحنة مع الفرس المسلمين استنفدت قوى الطرفين مما مكن الروس من اجتياح الممالك الإسلامية في آسيا الوسطى وإبادة ملايين المسلمين هناك والقضاء على منطقة من أخصب المناطق الإسلامية حضارة وازدهارا.
*****
إن إخراج أمة للناس هو اصطلاح قرءاني، فهذه الأمة تخرج من ديارها وتنتشر في الأرض حاملة رسالة معينة سواء بتكليف إلهي أو بدافع من طموحاتها الخاصة بمقتضى السنن الإلهية الكونية، ولذلك كان المصريون القدماء والفرس والأشوريون والإغريق والرومان والرهبان والعرب والمغول والترك والتتار والنورمان والفرنجة والأسبان والبرتغاليون والفرنسيون والإنجليز والألمان والأمريكان.... الخ أمما أخرجت للناس، وخيرهم بلا شك هي الأمة الإسلامية العربية التي علمها الرسول وزكاها بنفسه.
والتاريخ الحقيقي هو تاريخ بشر وليس تاريخ كيانات مقدسة ولا ملائكة، وكل كيان إنساني له أعماله الإيجابية وأعماله السلبية، ومن يوازن الأمور بحياد سيجد أن الأمة العربية الإسلامية التي علَّمها وزكاها الرسول في عهدها الأول هي خير أمة أخرجت للناس، ولكنها اختفت بسرعة بفعل أعتى تحالف من شياطين الإنس والجن، وكان على رأس هذا التحالف المبدلون والمنافقون والمنقلبون على الأعقاب.
فخير أمة أُخرجت للناس هم القرن الذي رباه وعلمه وزكاه الرسول بنفسه، وكان ذلك من مهامه، أما ما هو موجود الآن فهو –بصفة عامة- غثاء السيل وخدم أعداء الإسلام ونعال الشيطان! بهم يصد البشرية جمعاء عن سبيل الله تعالى وينفرهم من دينه، والآية القرءانية تقول:
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون} [آل عمران:110]
فالآية تتحدث بصيغة الماضي في العهد النبوي؛ فلا تنطبق إلا على الأمة التي علمها ورباها وزكاها الرسول من قبل، فهم خير أمة من أتباع المرسلين، خير من أتباع موسى وخير من أتباع عيسى عليهما السلام، أما من بعد الرسول فهذا أمر آخر، فالمجموعة التي تريد أن تكون خير أمة يجب أن تحقق في نفوس أفرادها وفي تكوينها ما يلزم لذلك، كما يجب أن تقوم بالمهام المنوطة بالأمة.
والمطلوب أولا من كل فرد أن يتحقق بما تحقق به الناس في العهد النبوي: تعلم آيات الكتاب، التزكي بالتطهر من الأخلاق والصفات الذميمة والتحلي بالصفات والأخلاق الكريمة، التحقق بالتقوى، تعلم كل ما يلزم للفلاح في الدنيا والآخرة.
أما جماعات الإجرام السياسي فهي تعلم أفرادها كيفية الذبح والقتل وإعداد الكمائن وقتل المسلمين الأبرياء على حين غرة، وهي لا تعبد في الحقيقة إلا السلطة، فهم من شرّ الأمم التي أُخرجت للناس.
*****
مفهوم "أمة خيِّرة أُخرجت للناس" مفهوم مختلف تماما عما يظنه الناس، و"أمة خيِّرة أخرجت للناس" هم مجموعة من الناس (وقد تكون فردًا واحدا) يصطفيهم الله لنفسه لأسباب حقانية؛ أي وفقًا لسننه التي هي من مقتضيات أسمائه الحسنى، ويتولى أمورهم ويصنعهم على عينه في فترة إعداد ثم يخرجهم للناس حاملين رسالة جديدة أو مجددين لرسالة قائمة.
أما غثاء السيل الموجودون الآن فأكثرهم لا يصلحون إلا كأدوات للشيطان الرجيم ونعالا لأبالسة الجحيم!
والحق هو أن إعداد الأمة الخيِّرة الفائقة الداعية إلى الخير هو من مقاصد الدين العظمى، وأنه في سبيل تحقيق ذلك هناك أركان ملزمة لجماعة المسلمين ككيان واحد ولكل مسلم على حدة.
إنه يجب على جماعة المسلمين أينما كانوا القيام بما استطاعوا من أركان الدين الملزمة للأمة، وعلى رأسها وحدة الدين ووحدة الأمة.
*******
عندما يكون المقصود إحداث طفرة أو تغيير كبير على مستوى كبير يتم إعداد أمة لتُخرج للناس، هذه الأمة تكون بمعزل بطريقةٍ ما عن الناس، هذه العزلة ليست عزلة مكانية بالضرورة، ولكنها تتضمن الابتعاد عن الانغماس في الأمور الجارية بكيفية ما، فهي العزلة الملائمة لظروف العصر والزمان والمكان، هكذا كانت عزلة الأنبياء محمد وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكذلك كانت عزلة الثلة التي آمنت بكل منهم إيمانا حقيقيا.
وعند إتمام إعداد تلك الأمة تخرج إلى الناس داعية إياهم إلى طريق الحق بالأسلوب الذي يناسب العصر، وتُقدر الخيرية فيهم بمقدار نجاحهم في القيام بالمهام المنوطة بهم.
أما عددهم فليس بالأمر الهام، وهو يكون عادة الحد الأدنى اللازم للقيام بالمهمة، ولقد كان إبراهيم عليه السلام أمة وحده، وأعد المسيح عليه السلام الحواريين، وأعد النبي الخاتم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ السابقين الأولين.
ولابد من أمة سيخرجها الله تعالى بإذنه يتحقق بها وعده بظهور دِينِ الْحَقِّ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون.
*******
1