top of page

من هدي القرءان الكريم

سورة الحج

سورة الحج 52-55

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)} الحج

إن الآيات توضح تمامًا أن الإلقاء الشيطاني يترتب عليه إضافات شيطانية تشوب آيات الرسول أو النبي المرسل؛ أي تختلط بالمعطيات والآيات الدينية الحقيقية مما يستدعى فعلا إلهيا لتطهير آيات الرسالة مما شابها ولإعادة إحكامها.

وقبل إرسال خاتم النبيين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كانت آثار الإلقاءات الشيطانية تختلط بنصوص الرسالات الأصلية بحيث تصبح من أمور دينهم ويتبعها مرضى القلوب والقاسية قلوبهم لتجانسها وتوافقها معهم، ذلك لأن الحق سبحانه لم يتكفل بحفظ تلك الرسالات السابقة لأن الأمر كان مازال في تطور مستمر، ولم تكن البشرية قد تهيأت للرسالة الكاملة، لذلك استحفظ الأحبار والرهبان على الكتب السابقة، وهؤلاء أنفسهم –باعتبارها بشرا غير معصومين من المعاصي والذنوب- قد يكونون آلات الشيطان لتحريف تلك الكتب، فإذا ما بلغ التحريف حدًّا خطيرا فإن الأمر يستلزم إرسال نبي جديد يكون بمثابة آلة للحق لنسخ الإلقاءات الشيطانية وإحكام الآيات، ومجال الإلقاء هو معطيات الرسالة ومادتها وتأويل نصوصها وليس نفس النبي أو الرسول فإنهم محفوظون عن أمر الله تعالى.

وتوضح الآيات أن آثار الإلقاء الشيطاني تبقى في الرسالة المنسوخة، فإذا كانت تلك الرسالة قد نسخت برسالة أخرى فإن الرسالة القديمة تبقى مختلطة بما تفاقم واستفحل من الإلقاءات الشيطانية وبالتالي يكون الشيطان بنفسه داعيا إليها ليصرف الناس بها عن الرسالة الجديدة، والرسالة الخاتمة التي هي الكتاب العزيز مصونة ومحفوظة من هذا الإلقاء الشيطاني وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه:

{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِه}،

ونصت على ذلك آيات قرءانية عديدة.

ولما لم يتمكن الشيطان من أن يلقى في الكتاب العزيز شيئا لتعهد الله تعالى بحفظه فإنه ألقى في كل ما هو دونه من مرويات وآثار وتفسيرات وتأويلات، ومن العجب أن يكون تفسيرهم لتلك الآيات بالذات وما حاكوه حولها من أبرز الإلقاءات الشيطانية، ومن أشد تلك الإلقاءات إجرامًا وخطورة ومن أسوأِها عاقبة ما يلي:

قولهم بالنسخ بمعنى وجود آيات قرءانية بطلت أحكامها.

اختلاقهم مصطلحات من عندهم وزعمهم أنها مصطلحات دينية.

تحريفهم معاني بعض المصطلحات القرءانية.

 ما نقلوه من تراث أهل الكتاب وآثارهم.

كل المرويات التي تشبه الله سبحانه بخلقه.

 كل المرويات التي تحاول النيل من قدر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ.

 كل المرويات التي تحاول النيل من قدر الكتاب الذي أرسله به إلى العالمين أو تشكك في الوعد الإلهي بحفظه أو في وصفه له بأنه كتاب عزيز أي لا يمكن أن ينال أحد منه.

ما وضعوه لتدعيم صياغاتهم ذات الصبغة البدوية والقبلية للدين وغيرها من الصياغات التي تحوي كما هائلا من الضلالات.

ومما ضاعف من خطورة الإلقاءات الشيطانية اعتبار المرويات الظنية المقطوعة غالبًا عن ملابساتها وظروفها بمثابة آيات تُتلى وتفسر، بل ويقضون بها على آيات الكتاب العزيز، ومن تماديهم في الإجرام أن يكفِّروا من يحاول التصدي لإفكهم وضلالهم!!!

ويلاحظ أن الآيات تنص على أن ثمة رسلا وثمة أنبياء مرسلين، وهذا يتضمن أيضا أن ثمة أنبياء غير مرسلين، فالنبي المرسل يأتي مجددا لشرع رسول أتى بكتاب يتضمن تشريعات خاصة بقومه ويأتي في ظل وجود أمة قائمة لها نظامها المستقر، أما الرسول فبالإضافة إلى مهامه النبوية فانه يناط به أيضا تحقيق المقصد الديني الأعظم الرابع وهو إعداد الأمة الخيرة الفائقة.

فلا خوف على الكتاب العزيز من النسخ أو الإلقاءات الشيطانية أما الإلقاءات فيما هو من دونه من تراث أو تأويلات -يأتي بها بعضهم ابتغاء الفتنة- فإن تطهير الدين منها منوط بالمجددين الذين يظهرون كلما اشتدت الحاجة إليهم أو كلما أريد إخراج أمة جديدة للناس.

أما النبي غير المرسل فهو الذي لم يكلف بمهمة خاصة بالنسبة إلى الناس.

ويلاحظ أنه سبحانه قال:

{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}

مما يدل على أن هذا الإحكام يحدث بعد فترة ما وأن إلقاءات الشيطان تبقى ليفتتن بها الذين في قلوبهم مرض والظالمون، أما الذين أوتوا العلم فهم على بينة من أمر الرسالة ويهتدون بفضل ربهم إلى دلالاتها الحقيقية ولن يفتنوا بإلقاءات الشيطان.

إن الإلقاء الشيطاني أدى إلى تحريف معاني المصطلحات عن دلالاتها القرءانية، وبالتالي أصبح تفانى المسلمين في الالتزام بتنفيذ ما ظنوا أنه من الدين ينقلب عليهم، وكمثال على ذلك هب أن ثمة شيطاناً يريد القضاء على إنسان ألم به داء عابر، إنه سيحاول مثلاً إقناعه بأن في شرابٍ ما شفاءً له في حين أن هذا الشراب ليس إلا سماً بطيء المفعول مثلاً، وقد يقتنع الإنسان ويواظب على هذا الشراب متوقعاً الشفاء، فلا تزداد حالته بالطبع إلا سوءا، ولن يغير من الأمر شيء قناعته بأنه يتناول دواءً ناجعا، فإذا كان هذا الإنسان فاسدا مختلا فلن يراجع نفسه أبداً بل سيلقي باللائمة على أي شيء آخر، وهكذا سيظل رجال الكهنوت يصرخون في الناس مطالبين إياهم بالتمسك بما يظنون أنه الدين حتى ينصلح حالهم دون أن يفطنوا إلى أن ما يطالبونهم بالتمسك به هو الداء الذي يجب عليهم الخلاص منه وأنه بحكم طبيعته لن يجذب أحداً إليه وأن من حاول التمسك به على مدي القرون لم يجن من وراء ذلك إلا الخسران المبين وأن ما أثبت فشله منذ أن استحدثه السلف لن يجدي نفعاً مع الخلف.

والمجددون الحقيقيون للدين هم خلفاء الرسل والأنبياء المرسلين في تطهير الدين من إلقاءات الشياطين، وهم الذين جاؤوا مصدقين لما هو منسوب إلى الرسول من قول: "يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ". 

ومن أمثلة التحريفات ما لحق بمعنى التوحيد، فالتوحيد هو شعار الإسلام الأول، وهو يُحمِّل الإنسان مسئولية هائلة إذ يعطيه حريته كاملة بتحريره من العبودية إلا لله رب العالمين ويجعله سيدا على الكائنات الأرضية، فلقد حرف البعض مدلولات هذا التوحيد وجعله مرادفا للقول بوحدة الوجود فتميعت المسئولية وضاعت الحدود وأصبح الكفر عين الأيمان والليل عين النهار والهدى عين الضلال …. الخ، وكذلك تساوت عندهم أديان المغضوب عليهم والضالين بدين الحق، وثمة آخرون اتخذوا مذاهبهم ومشايخهم بل وقبورهم أربابا من دونه، أما عباد الأسلاف فلقد عبدوا رباً صوروه كما يحلو لهم أو كما صوره بنو إسرائيل من قبل ولا علاقة له بالرحمـن الذي أنزل القرءان، ومن الأمثلة الأخرى ما لحق بمصطلح السنة، فالسنة التي هي بالأصالة لله رب العالمين وتعبر عن القوانين الحاكمة على الكائنات والكيانات والمجتمعات كما تعبر عن القوانين والأوامر والمناهج التي يجب على الإنسان أن يلتزم بها ويعمل بمقتضياتها بمحض اختياره ليفوز بكماله المنشود أصبحت تعنى المرويات الظنية والتي كان التمسك بها سببا في تمزق الأمة وتفرق الدين وتحريفه وانهيار الأمة وسقوطها تحت أقدام أعدائها، ذلك لأن الشيطان ألقى فيها ما ألقى عن طريق عملائه من الكهنوت وأحبار ورهبان أهل الكتاب وزنادقة الفرس وعملاء الطواغيت الأمويين والعباسيين.

ومن أمثلة التحريفات الأخرى ما لحق بخُلُق الصبر؛ ذلك لأن الصبر يعني متانة البنيان النفسي والقدرة على الصمود ومواجهة التحديات وتحدي الصعاب، فهو من أركان النصر وشروطه، والصبر إنما يكون على القيام بالأوامر التكليفية وعلى العمل الشاق وفي السراء والضراء وحين البأس وعلى ما يصيب الإنسان من ابتلاءات فانقلب صبرا على الظلم والجور والحماقة والفساد والجهل وتعبيرا عن العجز، فتحول بذلك أمرٌ قرءاني كبير وركن من أركان منظومة القيم الإسلامية إلى وسيلة لتقويض الدين، ومن وسيلة لإعداد الإنسان الفائق والأمة الخيرة إلى وسيلة للقضاء على إنسانية الإنسان بتحويله إلى دابة في قطيع ترضى بالذل والمهانة والذبح في مقابل علفٍ قليل.

ومن أمثلة التحريفات الأخرى ما حدث لمصطلح الفقه والذي هو ملكة قلبية ذهنية مجالها آيات الكتابين المقروء والمشهود وما يسرى فيهما من القوانين والسنن فصار مجاله مجرد ضبط الأشكال الظاهرية للعبادات والمعاملات؛ وبالتالي أُهملت مجالات الفقه الحقيقية والتي هي العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية باعتبار أنه لا يتعلق بها غرض شرعي كما زعموا أو باعتبارها تشغل الإنسان عن العبادة، وأصبح المثل الديني الأعلى هو (الفقيه) بالمعنى المحرف الذي يمكن أن يفتى في نواقض الوضوء والأحكام الخاصة بالحيض والنفاس والفروج… الخ، وبذلك تم إهمال كل المقاصد الدينية العظمي والجوانب العقائدية والأخلاقية والعلمية الواردة في القرءان كما تم إهمال طرق التربية الإسلامية وتزكية النفس،

أما التوكل وهو من الأخلاق الإسلامية الإيجابية العظمى والذي يعنى الثقة الكاملة بالله تعالى وفى أسمائه الحسنى وفى قدرته على الفعل والتأثير فقد صار لا يعنى إلا الانفلات والفوضى وإلقاء تبعة كل شيء على الآخرين والتهرب من تحمل المسئولية وعدم الجدية وعدم التخطيط وعدم الإعداد الجيد للأمور.

أما الإيمان بالقدر والذي يعنى الإيمان بأن كل شيء إنما يجرى وفق سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل مما يجعل الإنسان يقتحم المصاعب والأهوال غير هياب فقد انقلب جبرية محضة أو مستترة تبرر للإنسان كسله واستسلامه وعجزه ورضاه بالدون وعشقه للفوضى وإعطاءه الدنيــة من أمره وإهماله لقوانين الله وسننه، كذلك ألقى الشيطان إليهم ما لم يرد له ذكر في الكتاب من الأخلاق مثل الزهد الذي أصبح لا يعنى إلا الرضا بالفقر والجهل والسلبية والإحجام عن المشاركة في أمور الحياة، بينما البديل الإسلامي موجود وهو أن يحرص الإنسان على التمسك بما هو خير وأبقى دون أن ينسى نصيبه من الدنيا أو أن يحرم على نفسه زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق، ومن أبرز إلقاءات الشيطان القول بالنسخ والمرويات التي تشكك في حفظ الكتاب العزيز والتي تنال من قدر النبي أو التي تعلى من قدر أتباعه على حسابه.

فالشيطان يلقى في نصوص وتفاصيل كل رسالة مما أتى قبل الإسلام من رسالات، والآيات تدل على أن ما يلقيه يظل فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، وهذا يدل أيضا على أن ما يلقيه يبقى مختلطا بالرسالة الأصلية.

ويشير الحرف (ثم) إلى أن نسخ الإلقاء الشيطاني وإحكام الآيات يتطلب تجليا جديدا يتم باستخدام تدبير إلهي وآلة إلهية، وكان ذلك قبل ختم النبوة يتم بإرسال نبي جديد يطهر الدين مما لحق به من إلقاء شيطاني وتلك كانت الوظيفة الأساسية لأنبياء بنى إسرائيل من بعد موسى عليه السلام.

ولقد تعرض ما أتى به عيسى عليه السلام إلى أخطر إلقاء شيطاني على يد بولس وغيره حتى استلزم الأمر نسخ آية الكتاب السابق والإتيان برسالة خير منها.

ولما كان هذا القرءان هو الكتاب الخاتم فلقد أحكم تماما وحفظ تماما فلا يمكن أبدا أن يكون محلا لإلقاء شيطاني، لذلك فلقد كان هذا إلالقاء فيما هو دونه من مرويات وآثار وتراث وتفسيرات وبدع، ولذلك يهيئ الله تعالى لتلك الأمة في كل حين من يجدد لها دينها ويطهره قدر ما يستطيع من الإلقاء الشيطاني.

ومن عجائب وغرائب السلف وعبيدهم أن يؤمنوا بمرويات تشكك في حفظ الكتاب العزيز مثل تلك التي تزعم أن داجن الحي أكلت بعض ما دونت فيه الآيات وكذلك مرويات كمروية الغرانيق وأن يحشدوا كل ما لديهم من جهود لاكتشاف طرق تثبت صحتها رغم تعارض مروية كهذه مع ما هو ثابت من خلق الرسول ومع حقائق التاريخ الإسلامي ومع قواعد المنطق، فدل ذلك على جهلهم بقدر من زعموا أنهم يتبعون سنته، وهكذا فإنهم يستخدمون ما يسمونه بالسنة للنيل من قدر من قالوا إنه صاحب السنة، ويجعلون من أمروا باتباعه والتأسي به ومن قالوا بعصمته عرضة للإلقاء الشيطاني، ومن العجب أنهم لا يرون تناقضا في مسلكهم هذا!! ومن الأعجب أن يرموا بشتي التهم كل من يحاول التصدي لأباطيلهم والدفاع عن القرءان والرسول ضد إفكهم ومنها أنه عدو للسنة خالع للربقة مفارق للجماعة.....الخ.

ورغم أن تلك الآيات هي إخبار له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وليست إخبارا عنه فإن معبود أهل (السنة) والسلفيين ابن حجر صحح مروية الغرانيق والتي وضعت بقصد السخرية من الإسلام بحجة تعدد طرق ورودها، وهكذا يصبح لقواعدهم حق التقدم بين يدي الله ورسوله، فيقضون بها على القرءان ويتهجمون على مقام النبوة ويناقضون ما يؤمنون هم به لما لهذا المقام من العصمة لأنه صح لديهم سند أو تعددت طرق مروية، وهذا يكشف حقيقة أمرهم فما إن ترد مروية مرفق بها سند ملفق حتى يقع المحدثون والسدنة في حيص بيص وترتعد فرائصهم وأوصالهم ويعرضون عن الكتاب العزيز ويتهجمون على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ويضربون بالمنطق وثوابت الكون والتاريخ عرض الحائط مع أنهم يزعمون أن من قواعدهم أن المروية الصحيحة يجب ألا تعارض نصا صريحا وألا تحتوى على علة قادحة إلى آخر ما يصدِّعون به أدمغة الناس دون أن يلزموا أنفسهم به، والحق هو أن أية مروية تشكك في الكتاب أو تتهجم على مقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ مثل مروية الغرانيق ومروية السحر يجب تطهير الإسلام منها رغم أنف من صححها ومن أخذ بها من عباد الأسلاف.

***

لقد تمني كل رسول أو نبي مرسل الهداية لقومه، وتمني الرسول الأعظم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ الهداية لأمته وألا يضلوا من بعده وألا يرجعوا بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض وألا يفرقوا دينهم وألا يكونوا شيعا يذوق بعضهم بأس بعض، ولكن الشيطان للإنسان بالمرصاد، فهو يدبر كل ما يستطيع لكي يحبط ما تمناه الرسول أو النبي المرسل مثلما فعل من قبل، فقبل ختم النبوة كان يتم دحض وإحباط كيد الشيطان بأن يرسل الله تعالى نبيا أو رسولا جديد بآيات محكمة تنسخ ما ألقاه الشيطان، أما بالنسبة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فلقد ختمت به النبوة، ولكن كان لابد أن تسري على أمته السنن، لذلك عمل الشيطان على إحباط ما تمناه بالنسبة إلى أمته وذلك بما يلقيه إلى أهل البغي والمنافقين والمتآمرين والمغفلين والمهرجين، فأولئك بثوا في الدين من كل ما يسئ إليه ويقوض مقاصده وما حال بين المسلمين وبين مواصلة تقدمهم والاحتفاظ بأسباب قوتهم، ولكن الله سبحانه يحكم آياته بتجديد هذا الدين بمن يُعدُّهم ويصنعهم على عينه من المصلحين والمجددين.

***

إن الشيطان الأكبر يستخدم عملاءه من شياطين الإنس والجن ويوحي إليهم زخرف القول غرورا، ولقد فعل ذلك مع كل الأديان السابقة بدءا من ديانة المصريين القدماء وانتهاء برسالة السيد المسيح عليه السلام حتى قضى عليها قضاءا مبرما واقتضى الأمر نسخا إذ لم يكن ثمة مجال لإصلاحها أو تجديدها، أما هذا الدين الخاتم فلقد تكفل الله تعالى بحفظ رسالته وهي القرءان الكريم وأضفي عليه من صفاته العزة والمنعة والهيمنة والإحكام والعلو حتى لا يدنو منه كائن محرف أو مخرب، لذلك لم يتبق للشيطان إلا الإلقاء فيما هو دونه من النصوص الثانوية وأن يوحي إلى أوليائه للإعلاء من شأن هذه النصوص وحتي يتم نسخ الكتاب عمليا بها، وحقائق التاريخ الدامغة تثبت أن عملاء الشيطان وضعوا مئات الألوف من المرويات التي انكشف أمر أكثرها كما حرفوا وأدرجوا في المرويات الصحيحة، ولقد كان لدى الشيطان وعملائه من نصوص الديانات المحرفة رصيداً يكفي لإضلال البشرية جمعاء، لذلك استغل الشيطان غفلة البعض وجهل الآخرين وفسق الكهنوت وطغيان المتسلطين على الأمور بالإضافة إلى سوء نية الزنادقة وأهل الكتاب والمنافقين لكي يلقى في الدين كل تراث الغابرين بعد إكسابه قشرة إسلامية، وكانت النتيجة هي تلك الصياغات الكهنوتية المثقلة بالإلقاءات الشيطانية والتي تدفع الناس باسم الدين للقضاء على مقاصد الدين وصد الآخرين عنه.

***

إن محل الإلقاء الشيطاني ليس هو الرسول أو النبي وإنما ما يصل إلى الناس مما أتى به، قال تعالى:

{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} الجن

فبسبب هذا الرصد لا يجرؤ شيطان أو جني أن يقترب من أي رسول ولا أن يلقي فيما يتلقاه من وحي شيئا.

فالشيطان إنما يلقي إلى عملائه ما يخلطونه بنصوص الرسالة حتى يلبس على الناس أمر دينهم، والآيات تطمئن الناس على نص الرسالة الأصلي فسيظل الناس يدركون إلى أن تأتيهم الساعة أنه الحق من ربهم وأنه لم يشُبْه أي إلقاء شيطاني في حين أن ما لدى الناس من نصوص ثانوية كالمرويات مثلا قد شابها وأدرج فيها الكثير من الإلقاءات الشيطانية.

***

إنه يجب العلم بأن الأنبياء والمرسلين ليسوا بمحالّ لتلقي أقوال الشياطين ولا وحيهم، وإنما الأمر هو أن شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورا.

قال تعالى:

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)} الأنعام

فالتلقي من مصدر من المصادر مبني على التناظر والتناغم بين جهازي الإرسال والاستقبال مثلما هو الحال في أجهزة الاتصال، فالشيطان يتبادل الرسائل والإلقاءات مع شيطان مثله أو على الأقل مع من تناغم معه، ولا يتلقى النبي وحيا من عدوه الذي يعمل على إحباط وإفشال رسالته ومهمته، والنبي الخاتم كان مأمورا بالاستعاذة بالله السميع العليم عندما يقرأ القرءان الكريم، وبالطبع كان ربه يستجيب له.

فليس بوسع شيطان أن يلقي على رسول أو نبي فإنه لا يجرؤ على الاقتراب منهم أصلا، ولا يتلقى إلقاءا شيطانيا إلا من كان لديه استعداد لذلك، فالشياطين لا تتنزل إلا على كل أفاك أثيم كما قال تعالى في سورة الشعراء:

{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)} (الشعراء)،

ورغم ورود هذا النص القرءاني وصراحته ووضوحه فإنه وجد من رجال الكهنوت الذين تقدسهم الأمة من صحح مروية الغرانيق، وهذا ما يكشف حقيقة ضلالهم ومدى جنايتهم على تلك الأمة التي ابتليت بهم، فما إن ترد مروية منافية للدين والمنطق والحقائق مصحوبة بسند يتضمن مجموعة من الأسماء التي عدلوها هم وفق مقاييسهم البشرية إلا ويخروا على أذقانهم سجدا ويكفروا بالحق من ربهم.

والإلقاء الشيطاني يكون باستخدام شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا والإلقاء هو ما يفترونه ويلفقونه من نصوص وأفعال وينسبونها إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وربما قالوا إنها من الوحي الثاني أو هي من مثل القرءان.

والشيطان بالطبع لن يظهر للناس بقرونه وذنبه ليلقى إليهم وإنما سيتخفى وراء رجل من الكهنوت مهيب الطلعة كبير العمامة كث اللحية، كذلك قد يظهر أيضا بصورة جذابة عصرية، ولقد قال الحق سبحانه لرسوله عن المنافقين:

{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون} [المنافقون:4]

وإذا كان الرسول نفسه من الممكن أن يُعجَب بمظهر أكابر المنافقين فكيف بمن هم دونه من أفراد تلك الأمة الذين ترهبهم الأسماء والأشكال التي تربوا على تقديسها والتسبيح بحمدها، وقد يتحلى كثير من المشتغلين بالأمور الدينية بالإخلاص ولكنه الإخلاص لما تلقوه من أسلافهم من دين وليس للدين الذي أنزله الرحمن الرحيم وألزم به الناس إلى يوم الدين.

والإلقاء الشيطاني يترتب عليه أمور محسوسة لا ريب فيها كما حدث مع السامري فلقد كان هو أداة الإلقاء الشيطاني أيام موسى عليه السلام، وكان موسى هو أداة النسخ السريع لما ألقاه الشيطان، والإلقاءات الشيطانية تملأ الكتب التراثية، وهذا الإلقاء فتنة لكل من اقتضى استعداده ذلك، وقبل ختم النبوة كان الأنبياء يسوسون الناس ويرسلون لتجديد شرع الرسول الآتي بالرسالة أصلا والذي هو موسى عليه السلام بالنسبة إلى بنى إسرائيل، فلقد كان هؤلاء الأنبياء آلات الإله لنسخ الإلقاءات الشيطانية ولإحكام الآيات الإلهية واستخراجها من ركام الإلقاءات الشيطانية ولنفض غبارها عنها، أما إذا بلغ التحريف مدى رهيبا بحيث أفسد أمر الأمة وترسخ في نفوس أفرادها وأصبح كل فرد جديد يصنع على عين تلك الإلقاءات وأشربت في قلوبهم فإنه يتم نسخ الرسالة القديمة كلية ويأتي رسول جديد برسالة جديدة إلى أمة جديدة، وقد يقتضى هذا إهلاك الأمة المنحرفة وقد يقتضى الأمر إبقاءها وإنظارها لتكون آلات بيد الشيطان المنظر، وهذا هو ما حدث مع بنى إسرائيل.

أما الكتاب العزيز وهو يتضمن الرسالة الخاتمة فليس بمحلٍّ لأي إلقاء شيطاني فهو كما وصفه منزله عزيز أي منيع وهو على حكيم وكريم في كتاب مكنون ومجيد في لوح محفوظ، فكل تلك الصفات تنفي تماما إمكانية أن يناله أدنى تحريف أو نسخ أو إنساء، أما كل ما هو دون ذلك فهو محل ممكن للإلقاءات الشيطانية.

ولقد كان السابقون من القرن الإسلامي الأول متمسكين بكتاب الله لا يبغون عنه حولا ويرفضون أن يكون ثمة كتاب آخر معه، وكانوا حريصين تمامًا على ذلك، وتلك حقيقة تاريخية دامغة لا سبيل إلى التشكيك فيها، ولذلك كانوا خير أمة أخرجت للناس رغم كل ما شجر فيما بينهم، وكان أفضل أعمالهم أن سخَّرهم الله تعالى لتحقيق وعده بحفظ الذكر للناس، لذلك بذَلَ الشيطان وجنوده من المنافقين وأهل الكتاب والزنادقة وطواغيت بنى أمية وزعماء الأعراب ومن دخلوا في خدمتهم لينالوا قطعًا من دنياهم كل طاقاتهم لجعل المرويات في مرتبة مساوية للكتاب، بل حاولوا جعل إجماعهم المزعوم كذلك.

ولكي يكتسب كل هؤلاء الشرعية اللازمة فلقد استحدثوا واختلقوا مفهوم الصحابة أو حولوه من مصطلح لغوي إلى مصطلح ديني مقدس ليجعلوا للمنافقين نفس المصداقية التي هي للسابقين الأولين، بل أصبحت لهم السيادة والغلبة فأصبح ما يروى عن معاوية يفوق في مصداقيته ما يروى عن الصديق أبى ذر، وأصبح ما يروى عمن تتلمذوا على أحبار بني إسرائيل وأمثالهم وحيا ثانيا ومثلا للقرءان.

ولما كان النص الأصلي للرسالة عزيزًا منيعًا لا يمكن أن يمس فلقد اختلقوا المرويات التي تشكك في حفظه وتنال منه والتي تنال من قدر الرسول ذاته وتحاول أن تصوره بصورة الزعيم البدوي الذي يفتك بالقبائل الأخرى ليسبي لنفسه أفضل نسائها، والتي تجعله عرضة للإلقاء الشيطاني ..... الخ.

ولكن لما كان النص الأصلي محفوظا من أي تحريف فإن أمثال تلك الإلقاءات لا تستلزم أنبياء جددا لنسخها وإنما يتطلب الأمر مجددين يطهرون الدين من إلقاءات الشياطين، ولذلك مثلا يمكن استنادا إلى شهادة الله تعالى لرسوله بأنه على خلق عظيم أن تطهر كتب السيرة من كل ما نسبه الشياطين إليه مما لا يتفق مع هذا الخلق العظيم.

والخلق العظيم هو جماع كل ما نص عليه الكتاب من السمات والصفات الحسنة التي هي مقتضيات الأسماء الحسني والتي يجب أن يتحلى بها الإنسان الرباني الفائق، ومن مقتضياته أن يتوافق الإنسان مع السنن الإلهية وأن يتمسك بمنظومة القيم الرحمانية وأن يلتزم بالأوامر الربانية، ولذلك يجب ألا يلقي الإنسان بالا لأية مروية تنسب إلى الرسول الكريم مخالفة شيء من ذلك وأن يعتصم بما ذكره الكتاب العزيز عنه لا بما نسبه عبيد المرويات إليه والذين يحاولون النيل من قدره والقضاء على دينه بزعم الحفاظ على سنته، وهم بمسلكهم هذا يضحون بالأمة وبالدين في سبيل الحفاظ على تراث الأقدمين.

*******

رووا أن الرسول قال: "يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنه قد عهد إليَّ، اللطيف الخبير، أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض".

والمروية ذات أصل صحيح، وكان هذا طريقًا مرسومًا للأمة عليها أن تسير فيه لتسعد وتفلح كأمة، والمقصود بالعترة هاهنا بالنسبة للمخاطبين هو الإمام علي والسيدة فاطمة وأبناؤهما، فهم الذين نشأوا مسلمين، وتلقوا التزكية من الرسول نفسه بطريقة طبيعية، فكانوا لذلك يمثلون الإنسان الرباني الفائق الذي من مقاصد الدين العظمى إعداده، كما كان منوطًا بهم إكمال مهام التعليم والتزكية من بعد انتقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وذلك لأكثر من مائة ألف من الذين أسلموا من بعد الفتح، ولم يهاجروا.

ومروية "من كنت مولاه فعليّ مولاه" تبين طبيعة المهام المنوطة بالإمام عليّ من بعد الرسول، فهي ولاية أمر أمة المؤمنين، وليس رئاسة دولة لم يكن لها وجود، وولاية الأمر تتضمن مهام التعليم والتزكية المشار إليها.

ومروية الاثني عشر خليفة تبين أنه لو تولى أمر الأمة اثنا عشر خليفة بالمفهوم الإسلامي المذكور لاستقام الأمر، ولما حدثت فتن، ولتحقق للبشرية الفردوس على ظهر هذه الأرض.

ولكن الحزب القرشي كان له رأي آخر، وتم تأسيس دولة قرشية بالسيف، وبذلك أصبحت العترة تمثل العقبة الكبرى أمام الأطماع القرشية، فتم استبعادها وتهميشها.

ولكن كان لابد أن يبلغ الأمر مداه، فانقلب الاستبعاد إلى عداء سافر ومحاولات إبادة على أيدي الأمويين، وهم بصفة عامة كانوا الأعداء الطبيعيين لدين الحق ومن يمثله.

فأمنية الرسول ألقى فيها الشيطان، ولم تتحقق، وهو ليس مسؤولا عن ذلك، فهو مبشر ونذير، ولم يكن عليهم بجبار أو حفيظ أو وكيل أو مصيطر، وبذلك لم يتول الأمر اثنا عشر خليفة بالمفهوم الإسلامي، ولكن بقي القرءان مع العترة الحقيقية، ولن يفترقا حتى يردا على الرسول الحوض.

والرسول كان يعلم ما ستؤول إليه الأمور، ولكن كان عليه مع ذلك لسموه الفائق أن يقوم بما يجب القيام به، فأوصى وحذَّر ووعد وتوَّعد وأبرق وأرعد، ولكنه لم يكرههم على شيء في أمرٍ من أمور دينهم تأسيا بربه الأعلى.

****

أمنية الرسول

كان للرسول أمنية يودّ أن تتحقق، ذلك لأنه كان يعلم أن فيها صلاح الأمة والبشرية إلى قيام الساعة، وهذه المسألة يمكن عرضها بإيجاز كما يلي:

1.كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يحمل رسالة عامة للناس أجمعين، ورد ذكرها في آيات عديدة منها:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون} [سبأ:28]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} [الأعراف:158]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين} [الأنبياء:107].

2.وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يحمل رسالة خاصة بقومه، ورد ذكرها في آيات عديدة منها:

{وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُون} [الأنعام:92]، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قرءانا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير} [الشورى:7]، {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)} يس، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون} [الزخرف:44]، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)} السجدة.

3.إذا أرسل الله تعالى رسولا إلى قوم من المشركين أو الكافرين فلابد من القضاء والفصل بين من آمن بالرسالة وبين من كفر بها في هذه الحياة الدنيا، وذلك يكون بهلاك من كفر ونجاة وانتصار الرسول والمؤمنين، قال تعالى:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} الروم47، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)} يونس، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}غافر51، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)} يونس،

فكان لابد دائما من نجاة من آمنوا بالرسول وانتصارهم، كما كان لابد من هلاك من رفضوا الإيمان وحاولوا فتنة المؤمنين في دينهم، وكان ذلك يتم قبل ختم النبوة بآية كونية مثل الريح التي دمرت قوم عاد والصيحة التي أخذت  ثمود.

4.من مظاهر كون الرسول رحمة للعالمين أنه تم نسخ عملية إهلاك الكفار بآية كونية، واستبدل بذلك الإذن للمؤمنين بقتالهم في حربٍ وُعدوا فيها بالنصر النهائي إذا ما وفُّوا بالشروط المعلومة، قال تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} الحج، {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُم} [محمد:4].

5.ومن مظاهر كون الرسول رحمة للعالمين الجنوح للسلم لدى أول بادرة، وقبول مجرد الإسلام الظاهري الشكلي من قومه؛ أي عدم اشتراط الإيمان، وهذا يعني القبول بظاهرة وجود المنافقين، والتعايش السلمي معها، وتجنب محاولة استئصالهم، والاكتفاء بجهادهم سلميا، وكان ذلك أيضًا بحكم مبدأ حرية الإيمان، ومن الآيات التي تبين كل ذلك:

{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [البقرة:256]، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين} [يونس:99]، {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [الحجرات:14]، {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم} [التوبة:101]، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)} الأنفال

6.كان للرسول مهام خاصة بقومه منصوص عليها في القرءان في نصوص محكمة قطعية الدلالة، من هذه المهام: الرسالة والنبوة، الدعوةُ إلى الله، التبشير، الإنذار، التبليغ، تبيين آيات القرءان، تلاوةُ القرءان عليهم، تزكية أنفسهم، تعليمُهم الكتاب والحكمة، تعليمهم ما لم يكونوا يعلمون، ولايةُ كافة أمورهم، الحكم (القضاء) بينهم، أخذُ الصدقات منهم وتوزيعُها عليهم بالعدل والقسط ولصالح الدعوة. 

7.النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لم يؤسس دولة بأيي صورة من صور الدولة القديمة أو الحديثة، ولقد نفى الله تعالى ذلك عنه في القرءان بكافة السبل، فهو لم يكن عليهم وكيلا ولا حفيظا ولا مصيطرا ولا جبارا، ولم يكن له الملك عليهم، والرسول لا يمكن أن يكون ملكا أصلا، فالملك يُطاع لكونه ملكا، وكانت كلمة الملوك هي القانون، أما الرسول فيُطاع لكونه مرسلا إلى أناس يملكون حق رفض رسالته، ولذلك تكرر كثيرًا الأمر بطاعته من حيث أنه رسول في القرءان.

8.الرسول كان وليَّ أمر الأمة المؤمنة التي تتعايش مع أمة اليهود في المدينة بموجب وثيقة ملزمة للطرفين، فلم يكن له أية ولاية عليهم، ولم يكن له أن يحكمهم أو يحكم بينهم، بل حدث أنهم عندما جاءوه ليحكم بينهم أن نزلت الآيات تندد بموقفهم، وتأمرهم بإعمال ما لديهم في كتابهم التوراة، وقد جعلت الرسول مُخيَّرا في الاستجابة لهم، قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} النساء،

فهذه الآيات لا تخاطب ملكا ولا رئيس دولة، ولكنها تخاطب رسولا نبيا.

9.الرسول لم يحاول دمج الكيانات التي أعلنت إسلامها من القبائل والإمارات في كيان سياسي واحد، فلم تكن هناك دولة، وإنما أبقى الأمور داخل كل كيان على ما كانت عليه، واكتفى بإرسال من يعلمون الناس الدين، ويقضون بينهم به، ويحصلون الزكاة، ويحصلون صدقات تؤخذ من أغنيائهم لتردّ على فقرائهم، مع إسهامهم في النفقات العامة للأمة.

10.النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أسس وبنى وأعدّ أمة خيرة، كان هو ولي أمرها، وتأسيس أمة خيرة هو من مهام أي رسول نبي، ومن مقاصد الدين العظمى، بل إن تأسيس أمة خيرة هو من علامات الرسالة المقترنة بالنبوة، أما النبوة فقط فلا تستلزم ذلك.

11.النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان يتمنى أن تستمر الأحوال من بعده على ما كانت عليه في عهده؛ أي وجود أمة خيرة تحكم نفسها بنفسها بدون أجهزة تسلطية، وكان أكثر من 117 ألفًا من العرب والأعراب لم يسلموا إلا بعد فتح الحديبية، ولم يهاجروا، ولم تُتح لهم إمكانية التعلم المباشر من الرسول والتزكي على يديه، أما من أسلم من قبل الفتح فلم يكونوا كلهم متساوين في المراتب أو العلم، وكان الأمر يستلزم فترة انتقالية، يتم فيها تأهيل كل هؤلاء -الذين نشأوا مشركين وكافرين- واستيعابهم في جسد الأمة بشروط دين الحق.

12.كان كل ذلك يستلزم أن يتولى أمرهم سابق الأمة وأقربهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ من الناحية الجوهرية، ولقد كان الإمام عليّ هو سابق الأمة، ولقد أثبت ذلك دائما في كل المواقف، وخاصة أشدها خطرا وصعوبة، ولذلك أعلن الرسول صراحة أنه منه بمثابة هارون من موسى عليهما السلام، وهارون هو الذي قال له موسى كما جاء في القرءان:

{... وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} [الأعراف:142]،

وقد أعلن الرسول عليهم صراحة أن الإمام عليا هو وليّ كل مؤمن، وأنه هو ولي أمر الأمة من بعده؛ وهذا يعني أنه هو خليفته فيما كان يقوم به من مهام، ما عدا بالطبع النبوة، ولو كان يريد الخلافة لشيخي قريش لما أرسلهما -في المرض الذي كان يعلم أنه سينتقل فيه- كجنديين في جيش يقوده الشاب أسامة بن زيد إلى تخوم الشام، ومن المعلوم أنه أصدر أوامر مشددة بألا يتخلف أحد عن جيش أسامة.

13.الخلافة كانت خلافة بالمعنى الديني السابق، فهي خلافة على أمة كل فردٍ فيها آمر مأمور، وكل فردٍ فيها مُطالب بالقيام بأكبر قدرٍ في طاقته من المهام، ولا وجود لأجهزة قهر أو تسلط فيها، فهي لا تعني رئاسة دولة أو تملك مملكة، وبالطبع كان لابد من أولي أمرٍ من الأمة، فيتولى كل أمر من أثبت أنه أهل له وأنه خليق بذلك.

14.كان الرسول يعلم أن صلاح الأمة النهائي مشروط بأن تظل أمة كما كانت عليه في عهده، وأن يتولى أمرها على التوالي اثنا عشر إماما، وهذه هي أمنيته، وهذه هي الفترة التي كان يمكن أن تنشأ فيها أمة خيرة فائقة بطريقة ثابتة لا يمكن عكسها Irreversible، كان سيتم فيها تعليم وتزكية العرب والأعراب الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة، وكذلك كان سيتم تأهيل دعاة إلى دين الحق، يُرسلون إلى شتى الأمم والشعوب.

15.ولكن الرسول كان يعلم أنهم لن يستمروا طويلا على الحالة التي تركهم عليها، وأن دولة ستنشأ من بعده، وأن الأمة ستتداعى بسرعة لحساب الدولة، وهو لم يكن من مهامه أن يتحدث عن هذه الدولة، ولا أن يضع لها شكلا سياسيا، ولا أن يعين عليها رئيسا، كل ذلك كان خارج نطاق مهامه كرسول نبي، كان الرسول يعلم طبيعة رسالته العالمية، وأن الشكل السياسي سيشهد تطورات كبيرة، ولذلك لم يقترف ما من شأنه يجعلهم يظنون أنه جزء أساسي من الدين، ولكنه كان يتمنى أنه حتى في هذه الحالة أن يولوا عليهم الإمام عليا؛ أي كرئيس أو أمير لهذه الدولة، ولم يكن من سلطته التصريح بذلك، ولم يكن ذلك ممكنًا أصلا، فهو يتعارض مع مقصده من بقاء الأمة، ولذلك ألمح، ولم يصرح، فهذه الأمور محكومة بقوانين وسنن كونية تأخذ في الاعتبار أحوال الناس الحقيقية.

16.كان يتمنى إن أبوا عليه ذلك أيضًا أن يمارس الإمام عليّ المهام المذكورة بطريقة شرعية قانونية.

17.همَّ الرسول بأن يسجل ذلك في كتاب ملزمٍ لهم رحمة بهم، ولكنه كان يعلم أن التأليف بين قلوب قومه استلزم عملًا إلهيا قويًّا امتنّ الله تعالى عليه به في حياته، قال تعالى:

{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} الأنفال،

وكان يعلم أن من بعد انتقاله فستجري الأمور وفق السنن الكونية الطبيعية، وهكذا، عاد التعصب القبلي ليعمل عمله فيما بينهم، وظهر ذلك جليًّا في قبيل نهاية العصر النبوي وفي السقيفة، ولقد كان الرسول قد استعاذ بربه من التهديدات الواردة في الآية:

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} [الأنعام:65]

فاستجاب الله تعالى له في الأمرين الأول والثاني، وقيل له "سبق القضاء" في الأمرين الثالث والرابع، روى الطبراني من مرسل الحسن قال لما نزلت قل هو القادر الآية سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ربه ، فهبط جبريل فقال يا محمد إنك سألت ربك أربعا فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين: أن يأتيهم عذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم فيستأصلهم كما استأصل الأمم الذين كذبوا أنبياءهم، ولكنه يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتاب والتصديق بالأنبياء، وقد نزلت الآيات تبرئ الرسول من الذين فرقوا دينهم وكانوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وتحذر المؤمنين من أن يكونوا منهم، وتبين أن الشيع اتخذوا شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَأنه لَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، قال تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُون} [الأنعام:159]، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} الروم، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [الشورى:21]،

وقد فطن أكابر القرشيين إلى حقيقة الأمر، وأثاروا اضطرابًا ولغطًا في حضرة الرسول، وكان يمكنه بما لديه من سلطات أن يحسم الأمر، ولكنه كان بالمؤمنين رؤوفًا رحيما، لكل ذلك لم يجد الرسول جدوى من تدوين وصيته وتسجيلها، خاصة وأنها كانت ستؤدي إلى مضاعفة العذاب عليهم.

18.من المعلوم أيضًا أنه لا مفرّ من الاختلاف بين الناس في التعامل مع النصوص الدينية وفي تطبيقها على الواقع، ولذلك كانت الحاجة ماسة إلى مرجعية تحسم هذه الخلافات، وكان الإمام عليّ هو الذي تتوفر فيه شروط المرجعية. 

19.كان للحزب القرشي تطلعاته الخاصة، وكان متفقًا عليه بينهم أن الأمر -الذي تصوروا أنه سلطة وشرف كبير- يجب أن يظل دولة بين بطون قريش، وذلك استلزم منهم العمل على حرمان عترة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ منه لعلمهم بأنه لو دخل فيهم لما خرج منهم، ولذلك قالوا بأنه يكفي بني هاشم أنه كانت النبوة فيهم.

20.الكتاب الذي أراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أن يكتبه كان يتضمن بالطبع ما كان يتمناه لصلاح أمرهم، ولو كتبه لأصبح ملزمًا لهم، ولتعرضوا للهلاك لو خالفوه، وعندما عارضوه علم أن القضاء سبق بالأمر، فآثر جانب الرحمة، وهو كما شهد له ربه بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وإلا فقد كان يمكنه أن يأمر بكتابة الكتاب من بعد، ومن المعلوم أنه عندما نزلت الآية:

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} [الأنعام:65]

استعاذ الرسول بربه من أن يَبْعَثَ عَلَيْهمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِهمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِهمْ فأجيب إلى طلبه، أما عندما استعاذ بربه من أن يَلْبِسَهمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَهم بَأْسَ بَعْضٍ قيل له سبق القضاء.

21.بمجرد انتقال الرسول هُرع الأنصار إلى السقيفة للنظر في أمر مدينتهم، ولم يكن ذلك تمردا منهم على ما وصَّاهم به الرسول، ولكنهم كانوا يعلمون جيدا أنهم مخيرون بالنظر في أمر مدينتهم ككيان سياسي خاص بهم، وقد كانوا ينظرون إلى القرشيين كجلابيب غرباء لا حق لهم في إدارة شؤون مدينة استقبلتهم في ظروف خاصة.

22.عندما هُرع الوفد القرشي إلى السقيفة كان الصراع والتجاذب والتلاسن دنيويا محضا، لم يرجعوا فيه إلا إلى أمثال العرب وتقاليدهم، وقد أثبت القرشيون مهارتهم وحذقهم وبراعتهم واستغلالهم التناقضات وطبيعة الأنصار والتعصب القبلي بين فرعيهم، واستقر الرأي على أن يكون الأمراء من قريش، والوزراء من الأنصار (وهو بالطبع ما لم يتحقق أبدا)، وبذلك تولى أبو بكر الأمر، والإخلال بما تعهدوا به للأنصار من الأمور التي تقوض مشروعية ومصداقية اتفاق السقيفة.

23.بمجرد تولي أبي بكر الأمر بدأت بسرعة وبشدة، وتحت ضغط الأوضاع الجديدة عملية بناء دولة مركزية، وهذا أمر لم يكن لهم سابق عهدٍ به، وكان تولي أبي بكر الأمر من أسباب ثبات القرشيين في مكة وعدم ارتدادهم.

24.من العجيب أن يحاول القرشيون فرض ما توصلوا إليه بالقوة على عترة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فالأصل في البيعة هو الحرية، وليس الإكراه، وكان ذلك إيذانًا منهم بأنهم يأبون عليهم أي مكانة في الدولة التي شرعوا في التأسيس لها.

25.بذلك أُوكلت الأمة إلى نفسها، وتُركت عرضة لنوائب الدهر وتقلبات الزمن.

26.أظهر أبو بكر بسرعة مقصده في الاعتماد على القرشيين كأركان لدولته، فاختار منهم قادة الجيوش، وبذلك بدأوا في الاستحواذ على القوة والثروة، وفي سباق كهذا كان لابد أن يفوز في النهاية البطن القرشي الخبير بمثل هذه الأمور، وبذلك بدأت الكفة تميل لصالح الأمويين، وكان كل ذلك بالطبع على حساب أهل البيت والأنصار، وكان ذلك مما يقوض مشروعية ومصداقية اتفاق السقيفة وما ترتب عليه.

27.أصبح الحزب القرشي بالغ القوة والثراء، ولم يعد من الممكن أبدا العودة إلى مثاليات العصر النبوي، وقد تمكن معاوية خلال حكم الخليفة الأموي عثمان من تأسيس مملكة حقيقية ثابتة الأركان في الشام، ودخلت عناصر وخلايا بقايا الدولة البيزنطية العميقة هناك في خدمته، وأصبح له جيش محترف يدين له وحده بالولاء.

28.كان القذف بجيوش مادتها الرئيسة من الأعراب -الذين لا يكادون يعلمون شيئا عن الإسلام الحقيقي- على شعوب الشرق الأوسط المتحضرة سلاحًا ذا حدين، فقد أدَّى إلى التقويض السريع لسلطتي الفرس والروم، ولكنه أدَّى إلى أن تأخذ الأمور اتجاهًا كارثيا على الدين والأمة، ومازال العالم يعاني إلى الآن من آثار ذلك.

29.أخذت قوة الدولة تتزايد على حساب قوة الأمة إلى أن بلغ الأمر ذروته باستيلاء زعيم أهل البغي على الأمة والدولة ومال الأمة، وبدأ اتخاذ كل ما يلزم لضمان بقاء الحال هكذا، فبدأ التخلص من المعارضين بشتى السبل، واستدراجهم إلى مصارعهم، كما بدأ استعمال القصَّاص في المساجد لصرف الناس عن أمور الدين الكبرى ومقاصده العظمى، وتُرِكت الحرية للمنافقين ولأهل الكتاب لكي يدسوا في التراث الإسلامي ما يشاؤون، وتمخض كل ذلك في النهاية عن وضع أسس الدين الأعرابي الأموي الذي كان ركنه الرئيس ومحوره إخضاع الأمة لكل من قهرها بسيفه وإن نهب الأموال وجلد الظهور وجاهر بالفجور طالما لم يُظهر كفرا بواحا ولم يعطل إقامة الصلاة، وبالطبع لم يكن يريد المتسلطون أكثر من هذا، فهم لن يظهروا كفرًا بواحا حتى وإن كانوا أكفر من الكفر، وسيدفعون مشايخهم إلى توثين الأداء الشكلي للصلاة وجعله شغل الناس الشاغل ليشغلوهم بذلك عنهم، وبذلك ظهرت المجلدات الضخمة التي تتفنن في وصف كل ما يتعلق بشكليات الصلاة.

30.وكان أبرز ما يميز الدين الأعرابي الأموي خلوه من الجوانب الدينية الجوهرية واعتماده العدوان المصحوب بالتوسع الاستيطاني وسيلة أساسية للتعامل مع الآخرين.

31.مازال ما ألقاه الشيطان في انتظار أن يُنسخ، وسيتم ذلك على أيدي المجددين المنوط بهم أن ينفوا عن الدين تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ، وأن يظهروا للناس التأويل الذي أصبحوا مهيئين لقبوله بعد الطفرة العلمية الهائلة التي حدثت في العصر الحديث.

*******

1

bottom of page